للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتَوْثينِه، كما في قول النَّبي صلى الله عليه وسلم فيه: «إنَّ أوَّل مَن سَيَّب السَّوائب، وعَبَدَ الأصنام: أبو خزاعة عمرو بن عامر، وإنِّي رأيته يجرُّ أمعاءَه في النَّار» (١).

بل بعض آياتِ القرآن نفسِها تُثبِت عِلْمَ كثيرٍ من العَرب بدعوةِ التَّوحيد، منها قوله تعالى مخاطبًا أصحابَ النَّبي صلى الله عليه وسلم مُستذكرًا حالَهم قبل البعثة: {وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} [آل عمران: ١٠٣].

يقول ابن جرير في تفسير الآية: «وكنتم على طَرَف جهنَّم بكفرِكم الَّذي كنتم عليه، قبل أن يُنعِم الله عليكم بالإسلام، فتصِيروا بائتلافِكم عليه إخوانًا، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلَّا أن تموتوا على ذلك مِن كفركِم، فتكونوا مِن الخالدين فيها» (٢).

وجه الشَّاهد مِنها: أنَّ هؤلاء المُخاطَبين بهذا المَنِّ الإلهيِّ مِن المُهاجرين وأنصارِ الأوس والخزرج، لو مَاتوا في جاهليَّتهم على ما كانوا عليه مِن عبادةِ الأوثانِ: لكانوا مُعَذَّبين غير مَعذورين، وهذا بنصِّ الآية، وفي هذا أبْيَنُ دلالةٍ على أنَّ حُجَّة التَّوحيد قد قامت في أنفسِهم قبل البِعثة النَّبويَّة.

لقد كان أهل يَثْرب مُختلِطين بأهلِ الكتابِ، يَتَسامعون أخبارَ كُتبِهم، ورسالاتِ أنبيائهم، وكان في العَرب مَن لازم التَّوحيد، مُحتجًّا به على أهلِها، كقِسِّ بنِ ساعدة الإيَادِي (٣)، ووَرقة بن نوفل (٤)، وزيد بن عمرو بن


(١) أخرجه أحمد في «المسند» (رقم: ٤٢٥٨، ٧٦٩٦)، وأصله في البخاري (ك: تفسير القرآن، باب: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} رقم: ٤٦٢٣)، ومسلم في (ك: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، رقم: ٢٨٥٦).
(٢) «جامع البيان» للطبري (٥/ ٦٥٧).
(٣) قسُّ بن ساعدة: بن عمرو بن مالك بن إياد، أحد حكماء العَرب وكبار خطبائهم، كان أسقُف نجران. ويُقال: إنَّه أوَّل عربيٍّ خطب على سيف أو عصًا، وأوَّل من قال في كلامه: «أما بعد»، أدركه النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، توفي سنة ٢٣ قبل الهجرة، انظر «البداية والنهاية» لابن كثير (٣/ ٢٩٩)، و «الأعلام» للزركلي (٥/ ١٩٦).
(٤) ورقة بن نوفل: بن أسد بن عبد العزى القرشي، اعتزل الأوثان قبل الإسلام، وامتنع من أكل ذبائحها، وتبِع شرعة المسيح عليه السلام، وقرأ كتب الأديان، وكان يكتب بالحرف العبراني، أدرك أوائل عصر النبوة، ولم يدرك الدَّعوة، وإليه أحالت خديجة بنت خويلد نبينا عليه السلام بُعيد نزول جبريل عليه في حراء في قصَّة بدء الوحي المشهورة، لم يلبث أن توفِّي بعدها بقليل جدا، انظر «تاريخ دمشق» (٦٣/ ٣)، و «الأعلام» للزركلي (٨/ ١١٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>