للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أنَّ ابن مُزينٍ ما أراد بتعليلِه الأخيرِ كونَ بني النَّجار أخوالًا له صلى الله عليه وسلم على الحقيقة، لمُجرَّد كونِ جدَّتِه العُليا منهم، كلَّا؛ فهذه -كما قالَ الدُّمياطيُّ- خُؤولةٌ مَجازيَّة لا تُثبت مَحرميَّة، وليس يخفى أمرُها على العَوامِّ، فضلًا عن مثلِ ابن مُزَينٍ، أو ابن وهبٍ وغيرهما من أهل العلم.

إنَّما أراد ابن مزين وغيره بذلك: التَّدليلَ التَّاريخيَّ على أنَّ أصلَ الرَّضاع مَوجود في بني النَّجار لأحدِ أصولِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، سواء مِن جِهة أبيه أو أمِّه، بحكمِ المُصاهرةِ الكائنةِ بين بني هاشمٍ وبني النَّجار؛ هذه الرَّابطة تقتضي وجودَ تزاورٍ بين أصحابِها ومُعايشة، كما حَصَل مِن آمنة بنت وهب -أمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم- حين قدِمت بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم على أخوالِه مِن بني عدِّي بن النَّجار بالمدينة (١).

والغالب في مثل هذه الرَّوابطِ قديمًا ألَّا تُعدَمَ رَضاعًا يَتَخلَّلُها ويَنتشر بين أبنائِها، فأرادَ ابن مُزَين التَّنبيهَ بهذا على أنَّ أمَّ سُليم وأختَها مِن خالاتِ النَّبي صلى الله عليه وسلم رضاعًا غير مُستبعد من هذه الجِهة المشروحةِ؛ فلمَّا أنْ وجدنا النَّبي صلى الله عليه وسلم يُعامِل هاتَين الأُختين معاملةَ المَحارمِ دون سائرِ نساءِ المَدينةِ، مع ما علمناه من نِسبةِ أمِّ سليم وأختِها إلى أخوالِه مِن بني النَّجار: تحقَّقنا بهذا أنَّ له بهما صِلةً مَحْرميَّةً ما.

فأمَّا مَحرميَّة النَّسَب: فقد وجدناها بعيدَة الوقوع، لأنَّ خفَاءَ النَّسبِ عن العربِ وقتئذٍ أقربُ إلى الإحالةِ.

فلم يبقَ إلَّا القول بمَحْرميَّة الرَّضاع، وهو المُتعيِّن هنا، لانتشارها بين الأجانب في ذلك الوقت كما سبَق تقريره، وهي تخفى أحيانًا على أقربِ النَّاس ممَّن أُرْضِع، فضلًا عن البَعيد، والشَّواهد على ذلك كثيرة.

مِن ذلك ما أخبرت به عائشة رضي الله عنها قالت: «دَخَل علَّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي رجلٌ قاعدٌ، فاشتَدَّ ذلك عليه، ورأيتُ الغَضبَ في وجِهه، فقلتُ: يا رسول الله، إنَّه أخي مِن الرَّضاعة، فقال: «اُنظُرنَ إخوَتَكُنَّ مِن الرَّضاعة، فإنَّما الرَّضاعة مِن المَجَاعة» (٢).


(١) انظر «سيرة ابن إسحاق» (ص/٦٥)، و «دلائل النُّبوة» للبيهقي (١/ ١٨٨).
(٢) أخرجه مسلم في (ك: النكاح، باب: إنما الرضاعة من المجاعة، رقم: ١٤٥٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>