للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأنكرَ بعدُ ابنُ الصَّلاح على ابن حزمٍ مَقالَته في الحديث وراويه، وبالغ أيضًا في الشَّناعةِ عليه، فقال: «هذا القول مِن جَسَارتِه، فإنَّه كان هَجومًا على تخطئةِ الأئمَّة الكِبار، وإطلاقِ اللِّسان فيهم، .. ولا نعلَمُ أحدًا مِن أئمَّةِ الحديثِ نَسَب عكرمةَ بنَ عمَّار إلى وضعِ الحديث، .. وكان مُستَجابَ الدَّعوة» (١).

وقد كُنت أُمَنِّي النَّفسَ أنْ يكون لكلامِ ابن حزمٍ هذا حَظٌّ مِن النَّظر صحيح إذا ما حمَلَنا اصطلاحَ «الموضوع» عنده على: ما قام دَليلٌ على بطلانِ المتنِ، وإن كان راويِه لم يَتَعَمَّد الكذب، فيكون مَكذوبًا تَجَوُّزًا باعتبارِ مخالفةِ الواقع، النَّاتج عن غفلةِ الرَّاوي ونحوها مِن مَثاراتِ الغَلط في الرِّواية.

إلى أن وَجَدتُ في كلامِ ابن حزمٍ ما يُخْبي جَذوةَ مُنْيَتي تلك، حيث تَقصَّدُ مَعنى الكذِب مِن الرَّاوي عكرمة واضح فيه! وذلك فيما أثبتَه عنه ابن طاهرٍ المقدسيُّ أنَّه قال خِتامَ مقالتِه في الحديث: «ومثلُ هذا لا يكون خطأً أصلًا، ولا يكون إلَّا قصدًا، فنَعوذ بالله مِن البَلاء»! (٢)

فعلى هذا يكون ابن حزم أوَّلَ وآخرَ مَن يَتَّهم عكرمة بالوضع! وهذا الحكم مِنه لا يكون إلَّا عن غفلةٍ من التَّفرقةِ بين الوَهم والوَضع في الحديث، والله أعلم.

وابن حزمٍ وإن عَدَّه بعضُ العلماء مِن جملة علماء الجرح والتَّعديل (٣)، فإنَّه لا ريبَ عند كثيرين في عِداد المُتشَدِّدين في الجرح خاصَّة (٤)؛ ولكونِه كذلك، حَذَّرَ غيرُ واحدٍ مِن اعتمادِ أقوالِه مُفردةً في هذا الباب (٥).


(١) نقله عنه النَّووي في «شرحه على مسلم» (١٦/ ٦٣).
(٢) «المصباح في عيون الصحاح ـ جزء: أفراد مسلم» لعبد الغني المقدسي (مخطوط: ق/١١ أ)، و «إمتاع الأسماع» للمقريزي (٦/ ٧٧).
(٣) حيث ذكره السَّخاوي في رسالته «المتكلِّمون في الرِّجال» (ص/١١٨)، وإن كان الذَّهبي لم يذكره في كتابه «مَن يعتمد عليه في الجرح والتعديل».
(٤) كما في «سير أعلام النُّبلاء» (١٨/ ٢٠٢)، ووصفه ابن حجر في «لسان الميزان» (٥/ ٤٨٨) بأنَّه «كان يهجم بالقول في التَّعديل والتَّجريح»، ووصفه السَّخاوي في «المتكلمون في الرجال» (ص/١٤٤): إنَّه متسامح في التَّجريح، «فإنَّه قال في كلٍّ من الترمذي صاحب الجامع، وأبي القاسم البغوي، وإسماعيل بن محمد الصفار، وأبي العباس الأصم، وغيرهم من المشهورين: إنَّه مجهول».
(٥) انظر «معرفة ابن حزم بعلم الرجال، ومنهجه في الجرح والتعديل» لسعاد حمَّادي، وحاكم المطيري (ص/١٢١).

<<  <  ج: ص:  >  >>