للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأمَّا الفريق الآخر، فذَهبوا إلى عَوْد الضَّميرِ إلى الله عز وجل لا إلى آدَم (١):

على رأسهم أحمد بن حنبل، فقد سُئل عن هذا حديث « .. على صورته» على صورةِ آدم؟ فقال: فأين الَّذي يُرْوَى عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: «أنَّ الله تَعَالَى خلق آدم عَلَى صورة الرَّحمن عز وجل» (٢)؟! ..

ثمَّ قال: وأيُّ صورةٍ كانت لآدمَ قبل أن يُخلَق؟!» (٣).

لكن المُراد عند أصحابِ هذا القولِ مِن «الصُّورة» هنا: «الصِّفة»؛ كما تقول مَثلًا: عَرِّفني صورةَ هذا الأمر؛ أي: صِفَتَه (٤)؛ وصورةُ الشَّيء: مَجموع الصِّفاتِ الذَّاتيةِ الَّتي تُعرَف بها شخصيَّة الشَّيء، «ولا ريب أن الأدخلَ فيه هو الوَجه، ولِذا أظنُّ أنَّ غالبَ استعمالِ الصُّورةِ في الوَجْه، لأنَّه هو مَبدأ التَّمييز والمعرفة كثيرًا» (٥).

فعلى هذا يكون مَعنى الحديث على هذا الرَّأي: أنَّ الله خَلقَ آدمَ عليه السلام على صِفَتِه ذا وجهٍ، مُتَّصفًا بالسَّمعِ والبَصر والكلام، كما أنَّ الله تعالى متَّصِفٌ بجنسِ هذه الصِّفات، فكأنَّه «وَضَع في بني آدم أُنموذجًا مِن الصِّفاتِ الإلهيَّةِ، وليس مِن الكائناتِ أحَدٌ يكون مَظهرًا كاملًا لتلكِ الصِّفاتِ إلَّا هو» (٦)، فيكون خلقُه على صورةِ الرَّحمن مِن هذه الحيثيَّة فقط، فلا يستلزم مُماثلة (٧).


(١) وهو قول أحمد بن حنبل كما سيأتي، وقول ابن راهويه كما في «الشريعة» للآجري (٣/ ١١٢٧)، وكذا الآجريُّ في موضعه، وأبو إسماعيل الهرويُّ في كتابه «الأربعون في دلائل التوحيد» (ص/٦٣)، وهو الذي نصره ابن تيمية في «بيان تلبيس الجهمية» (٦/ ٣٧٣).
(٢) اختلف العلماء في هذا اللفظ من الحديث بين مُصحِّح له ومُضعف، فمِمَّن صحَّحه: أحمد بن حنبل، وابن راهويه، كما في «ميزان الاعتدال» (١/ ٦٠٣) (٢/ ٤٢٠)، وابن تيمية في «تلبيس الجهمية» (٦/ ٤٣٠)، والذهبي في «سير النبلاء» (٥/ ٤٥٠).

وضعَّفه ابن خزيمة في «التوحيد» (١/ ٨٦)، والمازري في «المُعلم» (٣/ ١٦٩)، والألباني في «الضعيفة» (٣/ ٣١٦).
(٣) «إبطال التأويلات» لأبي يعلى الفرَّاء (١/ ٨٨).
(٤) انظر «اللَّامع الصَّبيح» للبرماوي (١٥/ ٢٦٨).
(٥) «فيض الباري» للكشميري (٦/ ١٨٩).
(٦) «فيض الباري» للكشميري (٦/ ١٨٧).
(٧) ذهب بعضٌ ممَّن أثبت رجوعَ الضَّمير إلى الله تعالى إلى أنَّه من باب إضافة المخلوقِ إلى الخالقِ تشريفًا للمُضاف واختصاصًا له، كما في قوله «ناقة الله» و «بيت الله»، وهو ما تأوَّل به ابن خزيمة حديثَ «صورة الرَّحمن» على فرضِه صحَّته، انظر كتابه «التوحيد» (١/ ٨٦)، و «شرح النووي على مسلم» (١٦/ ١٦٦).

وفيه بعد، لأنَّ معنى الاختصاص والتَّشريف يأتي في الأعيان القائمة بنفسها، كالناقة والبيت ونحو ذلك، إذ معلوم انتفاء قيامها بذات الله تعالى، فأما الصفات القائمة بغيرها، مثل العلم، والقدرة، والكلام، والصورة، إذا أضيفت، كانت إضافتها إضافةَ صفةٍ إلى موصوف، وانظر تفصيل جوابه في «بيان تلبيس الجهمية» (٦/ ٥٣٤ - ٥٣٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>