وعَينُ هذه المنطقة كانت مَعمورةً قبل الأنباطِ بالدَّدَانيِّين، ثمَّ باللِّحيانيِّين (١)، وهذا يَزيد مِن احتمالِ حدوثِ التَّغيير في عمارتِها.
فالقصدُ: أنَّ الجزمَ بأنَّ ما يُعهَد مِن تلك المبَاني الصَّخريَّة شمالَ غربِ الجزيرة هو عينُ مَباني ثمودٍ، وأنَّه لَمْ يُصِبها شيءٌ مِن التَّغيير مَن قِبَل الحضاراتِ المتلاحقة عليها عبر الزَّمن الطَّويل: الجزمُ بهذا ضَربٌ مِن المُجازفةِ المُفتقرةِ إلى البرهانِ العِلْميِّ والتَّواتر النَّقلي.
غايةُ العِلم في مثلِ هذا الأمر أن يكون ظَنًّا، ولا ينبغي لِما هو ظنِّيٌ أن يُستشكَل به ما تَواردت الأمِّة على قَبولِه مِن حديثِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فضلًا عن تعطيلِه به!
ثمَّ على التَّسليمِ بأنَّ هذه الأطلالَ هي عينُها ديار ثَمود: فقد كان يَصِحُّ لابن حجرٍ الاستشكالُ بهذه المقدِّمة لو كان الحديثُ يَلْزم مِن ظاهرِه اطِّرادُ النَّقْصِ بتَدَرُّجِ أطوالِ بني آدم عبر الأجيال على وَتيرةٍ واحدةٍ! وذلك بأن يكون مُعَدَّل التَّناقصُ في الطُّولِ والحجمِ مِن قَرْنٍ إلى آخر ثابتٌ لا يَتَغيَّر!
وهذه هي المَغلطة الَّتي زَّلَ فيها المُحْدَثون! وليس في ظاهر النَّص ما يُسْعِفُها البتَّة، فليس يُفيد متنُه إلَّا جنسَ التَّناقصِ في الطُّولِ فحسب؛ أمَّا درجات التَّناقص هذا أو اطِّراده عبر الأجيال، فليس في الحديثِ ما يَنْفِيه أو يُثبته.
فلذا جازَ لنا مِن جِهة النَّظر في الحديث أن نقول:
لا مانعَ من أن يكون التَّناقصُ على وتيرةٍ سريعةٍ بعد آدم في الأجيالِ الأولى مِن بَنِيه قبل الطُّوفان، ثمَّ تَباطَأَت وتيرة التَّناقص فيما بعد ذلك تدريجيًّا عبر آلاف السِّنين، وخَفَّ التَّقاصر، حتَّى وَصَل الحال إلى مثلِ ما نحن عليه اليَوم.
(١) مملكة دادان أو لحيان: مقاطعة تابعة لمملكة مَعين اليمنيَّة الأصل، قامت غرب شمال الجزيرة العربية في القرن السابع قبل الميلاد، واستمرت باسم مملكة دادان إلى القرن الأول قبل الميلاد، ثم باسم لحيان بعد سقوط مملكة الأنباط من سنة ١٠٦ م إلى ١٥٠ م، انظر «تاريخ الجزيرة العربية في عصورها القديمة» لـ د. عبد العزيز صالح (ص/١٤٣).