للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بل يسوغ أن يُقال: أنَّ هذا التَّدرُّج نفسَه في النُّقصانِ كانت تختلِف وَتِيرتُه مِن جنسٍ بَشريٍّ إلى آخر في الزَّمن الواحد، فيبطُؤ في أقوامٍ، ويشتدُّ في آخرين.

شاهد ذلك: ما تَواتر في شريعتِنا وصُحف أهل الكتاب مِن خُلُوِّ أقوامٍ عَماليقَ ضِخام الأجسامِ، كالَّذين قاتَلهم بنو إسرائيل في زَمَنِ يوشع بن نون عليه السلام، وهو قولهم لنبيِّهم: {يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} [المائدة: ٢٢]، يقول ابن جرير: «سَمُّوهم جبَّارين: لأَّنهم كانوا بشدَّةِ بطشِهم، وعظيمِ خَلْقِهم -فيما ذُكِر لنا- قد قَهَروا سائرَ الأُمَم غيرهم» (١).

فقولنا بعدمِ اطِّرادِ وتيرةِ النَّقصِ عبر الأجيالِ، هذا في نَظَري أفضل ما يُجمَع به بين الحديثِ وبين بعضِ الآثار المُشاهَدةِ، وعليه ما نراه مِن آثار قديمةٍ تقربُ من أطوالِنا اليوم: تكون لأقوامٍ تباطَأَ فيهم التَّناقصُ، حتَّى قرُبوا في أطوالِهم مِن أطوالنا.

ثمَّ إنَّا نقول: إنَّ حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا في نقصِ طول بني آدم ليس الدَّليل الشَّرعي الوحيدَ على إفراطِ طولِ أبينا آدم عليه السلام والأجيالِ الَّتي جاءت بعده، ففي كتابِ الله تعالى ما يُشِير إلى ذلك، بل في المُكتشفات البيولوجيَّة والحَفْريَّةِ ما يَعضد ذلك.

بيان ذلك: أنَّ المُقرَّر من دلائلَ الشَّريعة فرطُ أعْمارِ البَشَر في الأُمَمِ السَّابقة الأولى، على غير ما نعهده في هذه الأحقابِ المتأخِّرة (٢)، فقد لَبِث نوحٍ في قَومِه {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَاّ خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت: ١٤].

وليس يخفى أنَّ هذا ليس بخَصِيصةٍ لنوح عليه السلام ولا آيةً له، بل ميزة في الأوائل عمومًا، بَدَأت بآدم عليه السلام حيث ناهزَ الألفَ سنة (٣)، ثمَّ تَتالَت بعدُ في أبنائِه.


(١) «جامع البيان» (٨/ ٢٨٩).
(٢) مما رُوي في ذلك ـ مثلًا ـ ما أخرجه مالك بلاغًا في «الموطأ» (١/ ٣٢١، رقم: ١٥): من «أن رسول الله أُريَ أعمار النَّاس قبله، أو ما شاء الله من ذلك، فكأنَّه تقاصر أعمار أمَّتِه .. ».
(٣) كما صحَّ به الحديث عن أبي هريرة وابن عبَّاس رضي الله عنهم: «أنَّ الله تعالى كتب لآدم ألف سنةٍ، ثمَّ وأنَّه وَهَب لداود عليه السلام مِن عمرِه أربعين سنةً .. »، أخرجه الترمذي في (ك: التفسير، باب، رقم: ٣٣٦٨) وقال: «هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقد رُوي من غير وجه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم»، وصحَّحه ابن حبَّان (رقم: ٦١٦٧)، وأخرجه أحمد في «المسند» (رقم: ٢٢٦٩، ٢٧١٤، ٣٥١٩) عن ابن عباس، وقال مخرِّجوه: «حديث حسن لغيره».

<<  <  ج: ص:  >  >>