للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بدَنُه مماثلًا لِما نعهدُه مِن أبدانِنا اليوم! والَّتي لا تَتَحمَّل إلَّا بِضْعَ عقودٍ مِن السِّنين، لتهرمَ بعدُ وتضعُف بِنيتُها بفعلِ الشَّيخوخة (١)؛ هذا مِن المُحال.

ومِن لطائف الأخبار في هذا الباب، ما وجدته لابن عمر رضي الله عنه من إشارة لَطيفةٍ إلى هذا التَّلازمِ الواقعِ بين نقصانِ عُمْر الإنسانِ وخِلقَتِه! وذلك فيما رواه عنه مجاهد قال: قال ابنُ عمر: «هل تَدري كم لَبِثَ نوحٌ في قومِه؟ قلتُ: نعم، ألفَ سنةٍ إلَّا خمسين عامًا، قال: «فإنَّ النَّاسَ لم يَزدادوا إلَّا نقصًا في لحومِهم وأجسامِهم وأعمارِهم» (٢).

تَتَلمَّح هذا الرَّبطَ بين هذين الطُّولَين في التَّناسبِ -طولِ العُمرِ وطولِ الجسم- في قولِ المَقريزيِّ (ت ٨٤٥ هـ) أيضًا: «العَرَب العاربة الَّذين كانوا في الزَّمَن الغابر، وقد طالت مُدَدُهم في الحياة، وعظُمًت خلقتهم» (٣).

لكن عَجَبي لا ينقضي مِن عَالمٍ فقيهٍ مِن جهابذة القرنِ السَّادس، كيف انتبهَ إلى هذه العلاقةِ التَّناسبيَّةِ بين عُمْرِ الإنسان وحجمِه قبل قرونٍ مِن الزَّمن؟! أعني به ابنَ هُبيرة الوَزيرِ (ت ٥٦٠ هـ)، حيث قال في شرحِه لحديثِ أبي هريرة هذا:

«إنَّه لمَّا كانت أعمارُ الأوائلِ طِوَالًا، لم يَكُن يَقتضي طولٌ بلوغَ الأشدِّ منه؛ لأنَّ مُدَّتَه (٤) تُناسب ذلك الطُّول، وأنَّ ابتداءَ الخلق مِن ( .. ) (٥) الآدمي إلى أن


(١) ومِن لطيف الاعتبارِ بحديث أبي هريرة صلى الله عليه وسلم: أنَّه يُعَيِّن النِّسبة بين طولِ آدم وما نعهده من طول الإنسان الحاليِّ، إذْ حاصل قِسمة ٦٠ ذراعًا -وهو طول آدم- على ٣.٨ ذراع -وهو متوسِّط طول الإنسان اليوم- هو: (١٦)، أي أنَّ طول آدم يفضُل على طول أبنائه اليوم بستة عشر ضعفًا، والعجبُ في أنَّ هذه النِّسبة هي نفسُها النِّسبة بين طولِ عُمر آدم وعمر الإنسان الحالي، أي تقسيم ألف -وهو عمر آدم بالسِّنين- على ٦٥ سنة هجريَّة أو ٦٣.١ سنة شمسيَّة -وهو متوسط أعمار الأمَّة المحمَّدية- والَّذي حاصله ما يقرب منه (١٦) أيضًا! وانظر مقال عز الدِّين كزابر المُشار إليه سابقًا: «طول آدم والإنسان، ومنحنى نقصانه مع الزَّمان».
(٢) أخرجه ابن الجعد في «المسند» (رقم: ٢٧٤)، وبنحوه نعيم بن حماد في «الفتن» (٢/ ٧٠٣ رقم: ١٩٨٦)، وابن أبي حاتم في «التفسير» (٩/ ٣٠٤١)، وأبو نعيم في «الحلية» (٣/ ٢٨٠): بأسانيد صحيحة عن مجاهد.
(٣) «ضوء السَّاري» للمقريزي (ص/٢٩ - ٣٠).
(٤) في الأصل المطبوع: (مده)، ولعل ما أثبته أصح وأنسب للسياق.
(٥) كذا في الأصل المطبوع، ولعله بياض في نسخته الخطية.

<<  <  ج: ص:  >  >>