للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وليتطابقَ بعدُ مع يَقينيَّاتِ علمِ الأجِنَّة في ذلك، والَّتي تؤكِّد بآلاتِ الرَّصد والمشاهدةِ على انتقالِ الجنين بين تلك الأطوارِ الثَّلاثةِ في أربعينِه الأولى نفسِها، واكتمالِ صورةِ الإنسان بُعيد ذلك مباشرةً؛ هذا مِن جِهة أخرى.

ومن جِهة ثالثة: فإنَّ في نفسِ حديث ابنِ مسعود في جملتِه الأولى: «يُجمَع خلقُه في بطنِ أمِّه أربعينَ يومًا» دلالةً مُحكَمةً على أنَّ الجَنين تجتَمِع خِلقتَه لتكون على هيئةِ الإنسان ما يناهز الأربعينَ ليلةً.

فإن قيل: فقد ذكرتَ بأنَّ (ثُمَّ) قد تأتي في اللَّغة لغيرِ معنى التَّراخي الزَّمني إن أفهَمَت قرينةٌ ذلك، فما المعنى الَّذي أفادته (ثمَّ) في حديث ابن مسعود في لفظ البخاريِّ؟

قلنا: فائدة (ثمَّ) هو بيانُ ما بين تلك الأطوارِ الخَلقيَّةِ مِن التَّفاوت، وفضلٍ كلِّ طَورٍ على سابِقه، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد: ١٧] (١).

فإن قيل: فقد جاءت بعض رواياتِ حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه مُصرِّحةً بأنَّ مرحلةَ الأربعين الأولى خاصَّةٌ بالنُّطفةِ فقط، وأنَّ العَلقة والمُضغَة تستغرق كلُّ واحدةٍ منهما بعدها أربعينَ يومًا على حِدة، نُقلت إلينا هذه بأسانيد صحيحة!

فجوابُ ذلك: أنَّ هذه الرِّواية شاذَّة مردودة! والدَّليل على ذلك:

أنَّ حديث ابن مسعود رضي الله عنه أشهرُ طُرقِه ما جاء عن الأعمش عن زيد بن وَهب عنه، وعن الأعمش رواه خلائق مِن النَّاس، حتَّى قال ابن حجر: «كنتُ خرَّجته في جزءٍ مِن طرقٍ نحو الأربعين نفسًا عن الأعمش، فغابَ عنِّي الآن، ولو أمعَنتُ التَّتبُّعَ لزادوا على ذلك» (٢).

أغلب هذه الطُّرقِ جاءت بنحوِ لفظِ «الصَّحيحين»: « .. يُجمَع خلقُه في بطنِ أمِّه أربعينَ يومًا»، أي مِن غير ذكرٍ لفظ (النُّطفة) في آخر الجملة الأولى.


(١) انظر قريبًا من هذا التَّقرير في «الكشَّاف» للزَّمخشري (١/ ١٢٣).
(٢) «فتح الباري» (١١/ ٤٧٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>