للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صورتِه يُنفخ فيه الرُّوح، وقد علِمنا أنَّها تُنفخ بعد أربعة أشهر، وهي مائة وعشرون يومًا (١).

فإنَّنا نقول: إنَّ قولنا بدلالةِ حديث ابن مسعود على اجتماعِ خلقِ الجنين واكتمالِ أطوارِه الثَّلاثة عقيب الأربعين الأولى، لا يعارض اعتقادَنا بأنَّ الرُّوح تُنفخ بعد أربعة أشهر، فقضيَّة ما أثبتناه في معنى الحديث مِن وقتِ التَّخليق والكتابةِ شيء، وقضيَّة وقت نفخ الرُّوح شيء آخر.

فلسنا مِمَّن يقول أصلًا بأنَّ النَّفخ يعقبُ اكتمالَ طورِ المُضغةِ والتَّخليقِ على الفَور (٢)،

ولا في حديث ابن مسعود ما يدلُّ على تعيين وقت النَّفخِ بالتَّحديد حتَّى نُعارض بما اتَّفق عليه العلماء مِن توقيت النَّفخ، فإنَّ فيه بعد ذكرِ اكتمال طورِ المضغة: « .. ثمَّ يُنفخ فيه الرُّوح»، وقد مَرَّ أنَّ حرفَ العطف (ثمَّ) أصلُه أن يفيدَ التَّراخي، وأنَّه لا يُحاد عن هذا إلَّا بقرينة تفُهم خلافه، ولا وجود لها هنا، بل القَرائن تبقيه على أصلِه في عدم الفوريَّة (٣).


(١) انظر «شرح صحيح مسلم» للنووي (١٦/ ١٩١)، و «فتح الباري» لابن حجر (١١/ ٤٨٣).
(٢) وإنَّا على غير وفاقٍ أيضًا مع مَن يقول بأنَّ نفخَ الرُّوح يكون بعد تمامِ صورة الجنين أصلًا كما أفهمه النَّووي في «شرحه على مسلم» (١٦/ ١٩١)، فليس على ما هذا القول دلالة مِن جِهة النَّقل ولا جِهة الطَّب.

والَّذي أميل إليه في وجهِ الحكمةِ مِن توقيت النَّفخ بعد المائة والعشرين: أنَّه لأمرٍ آخر غير ما ذهب إليه النَّووي، فالظنُّ أنَّه مُتعلِّق باكتمالِ القدرة لا الصُّورة، أي باكتمال قدرةِ الجَنين على الحركة والاستجابةِ للمُؤثِّرات، بحيث يكون جهازه العصبيُّ الآمِر مُتَّصلًا بقلبه وجميع جوارِحه بشكل متكامل، قابلًا لتنفيذِ مُراداتِه فيهاـ والله تعالى أعلم ـ انظر قرينةَ هذا الرَّأي مِن جهة الطب في الكلام حولَ النُّمو العَصبي للجَنين في كتاب «القرآن وعلم النفس» لـ د. محمد عثمان نجاتي (ص/٢٥٦).
(٣) وما ورد في «صحيح مسلم» (رقم: ٢٦٤٣) ممَّا ظاهره ذكر الكتابة بعد نفخ الرُّوح، في قوله: « .. ثمَّ يُرسل الملك فينفخ فيه الرُّوح، ويُؤمر بأربع كلمات .. »، فلا يُشكل على قرَّرنا أعلاه، «لأنَّه قال: ويُؤمر، والواو لا تُعطى رُتبة»، كذا قال في «إكمال المعلم» (٨/ ١٢٧)، فيكون المُراد مجرَّد ترتيب الأخبار فقط، لا ترتيب ما أُخبر به.
هذا إن سَلِمت هذه الرِّواية من تصرُّف بعض رواتها بالمعنى كما قال ابن رجب في «جامع العلوم والحكم» (١/ ١٦٢ - ١٦٣)، وإلَّا فجماعة الثِّقات الرُّواة لهذا الحديث على غير هذا التَّرتيب.

<<  <  ج: ص:  >  >>