للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا؛ وأجودُ مَن وقفتُ له مِن علماءِنا الأقدمين يقرِّر هذا التَّوفيق بين حدِيثي ابن مسعود وحذيفة بن أسيد مع المُشاهد من أشكال الأجنَّة عند سقوطِها: كمال الدِّين ابن الزَّمْلَكانيِّ (ت ٧٢٧ هـ)؛ فلَكَم سُعدت بتحريرِه لهذه المسألة بأقنعِ عبارةٍ، بعد أن أعياني العثور في كلامِ الشُّراحِ على مثلِه، بعد أن تَتابعت جمهرُتهم على فهمِ حديثِ ابن مسعودٍ على غير ما بيَّنته آنفًا، على قدرِ معارفِ زمانِهم، آجرَهم الله وأحسنَ لهم الثَّواب.

يقول ابنُ الزَّملكانيِّ:

«أمَّا حديث البخاريِّ -يعني حديثَ ابن مسعود: «إنَّ أحدَكم يُجمع خلقُه في بطن أمِّه» - فيدلُّ على ذلك، إذْ معنى «يُجمَع في بطن أمِّه» أي: يُحكَم ويُتقن، ومنه: رَجل جَميع، أي: مُجتمع الخلق، فهما مُتساويان في مُسمَّى الإتقانِ والإحكامِ، لا في خصوصِه.

ثمَّ إنَّه يكون مُضغةً في حِصَّتِها مِن الأربعين، مُحكمةَ الخلقِ مثلما أنَّ صورة الإنسان مُحكمةٌ بعد الأربعين يومًا، فنصَبَ «مثلَ ذلك» على المصدر، لا على الظَّرف! ونظيرُه في الكلامِ قولُك: إنَّ الإنسان يَتَغيَّر في الدُّنيا مُدَّة عمرِه، ثمَّ نشرحُ تغيُّرَه، فنقول: ثمَّ إنَّه يكون رَضيعًا، ثمَّ فطيمًا، ثمَّ يافعًا، ثمَّ شابًّا، ثمَّ كهلًا، ثمَّ شيخًا، ثمَّ هرِمًا، ثمَّ يتوفَّاه الله بعد ذلك .. ، وذلك مِن باب ترتيبِ الأخبار عن أطوارِه الَّتي ينتقل إليها مُدَّةَ بقائِه في الدُّنيا.

ومن الَمعلوم مِن قواعدِ اللُّغة العربيَّة، أنَّ (ثُمَّ) تفيدُ التَّرتيب والتَّراخي بين الخَبر قبلها وبين الخبر بعدها، إلَّا إذا جاءت قَرينةٌ تدُلُّ على أنَّها لا تفيد ذلك، مثل قوله سبحانه وتعالى: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الأنعام: ١٥٣ - ١٥٤]، ومِن المعلوم أنَّ وصيَّة الله لنا في القرآن جاءت بعد كتابِ موسى عليه السلام، فـ (ثمَّ) لا تفيد ترتيب المُخبَر عنه في الآية.

وعلى هذا يكون حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «إنَّ أحدَكم يُجمع خلقُه في بطنِ أمِّه أربعين يومًا، ثمَّ يكون في ذلك» أي: في ذلك العَدد مِن الأيَّام «عَلقةً»: مُجتمعةً في خلقِها «مثلَ ذلك»: أي مِثلما اجتمعَ خلقكُم في الأربعين، «ثمَّ يكون

<<  <  ج: ص:  >  >>