للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأصحاب هذا القول يَستأنسون في هذا بما رواه وهب بن منبِّه قال: وجدتُ في بعضِ الكتبِ عن الله تعالى: «لولا أنِّي كتبتُ الفناءَ على الميِّت، لحبَسَه أهلُه في بيوتِهم، ولولا أنِّي كتبتُ الفسادَ على الطَّعام، لخزَّنَته الأغنياء عن الفقراء» (١).

ولستُ أنكِرُ ما في هذا التَّأويل مِن نوعِ تَكلُّفٍ! ويُغني عنه ما سيأتي ذكرُه من القولين الآخَرين:

القول الثَّاني: أنَّ الله تعالى عندما أنزلَ على بني إسرائيل المَنَّ والسَّلوى، وكان قد تكفَّلَ لهم بما يَكفيهم منهما، خافوا انقطاعَ ما هُم فيه مِن نَعيمٍ، وأساءوا الظَّن بالمُنعِمِ عليهم! ففكَّروا في الادِّخار، وصاروا يكنِزون لحومَ السَّلوى (٢)، حتَّى ابتلاهم الله تعالى بفسادِها فسادًا سريعًا خارجًا عن المألوفِ والمُعتادِ عند غيرهم (٣).

يقول البيضاويُّ: «قيل: لم يكن اللَّحم يخنز، حتَّى مُنع بنو إسرائيل عن ادِّخاره، فلم ينتهوا عنه، فأسْرَعَ الخَنزُ إلى ما ادَّخروا عقوبةً لهم» (٤).

فعلى هذا ليس المُراد من الحديث أنَّ اللَّحم لم يكن يفسُد ولا يتحلَّل قبل بني إسرائيل البتَّة، ولكن المعنى: أنَّ اللَّحم لم يكن يفسُد على النَّاس قبل بني إسرائيل فسادَه لهم خاصَّة، كما لم يكن يفسد على مَن قَدَّده وادَّخَره مِن الأُمَم الَّتي لم تُنْهَ عن الادِّخار كما نُهيَت بنو إسرائيل.

فتغيُّر اللَّحم على ذلك النَّحو الَّذي لم يألفوه مِن سُرعتِه وخبثِ رائحتِه، كان عقوبةً لهم، شَمَل أثرُها مَن بعدهم.


(١) رواه أبو نعيم في «الحلية» (٤/ ٣٧).
(٢) السَّلوى: اسم طائر سمين يشبه السُّمانَى، واحدُه وجِماعه بلفظٍ واحد، انظر «جامع البيان» للطبري (١/ ٧٠٤).
(٣) انظر «إرشاد الساري» للقسطلاني (٥/ ٣٢٢).
(٤) «تحفة الأبرار» للبيضاوي (٢/ ٣٧٣)، ومثله نَقل الطَّيبيُّ في «شرح المشكاة» (٧/ ٢٣٢٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>