للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي تقرير هذا المعنى، يقول ابن الملِك الحَنفيُّ (ت ٨٥٤ هـ): «إنَّه تعالى كان قد نهاهم في التِّيه -وقد أنزل عليهم المَنَّ والسَّلوى- أن يأخذوا فوقَ كفايتَهم، فخالفوا حِرصًا منها، فتَغيَّرت رائحة اللَّحم بسببِه، فإنَّهم ادَّخروا السَّلوى حتَّى أنتنَ لحمُه؛ فخَنْزُ اللَّحم شيءٌ عوقبت به بنو إسرائيل لسوءِ صَنيعهم فيه، وهو الادِّخار النَّاشئ مِن عدم الثِّقة بالله» (١).

فالمُستفاد من الحديثِ في ما جَرى لبني إسرائيل بالعقوبة على هذا المعنى: أنَّ الفسادَ والإنتانَ أسرعَا إلى اللُّحومِ إسراعًا لم يكن مَألوفًا عندهم قبلُ -كما سبق تقريره-، مع ما ينبعث عن ذلك مِن روائح نتِنَةٍ وتَدويدٍ لم يَعهدوه.

فصَحَّ بهذا الاعتبار المَشروح أن يُقال عقلًا: «لولا بنو إسرائيل لو يخنز اللَّحم» (٢).

فهذا المعنى للحديثِ قَمِنٌ أن يكون مُراد النَّبي صلى الله عليه وسلم -والله أعلم-، فالله تعالى قادر على خلق أسباب ذلك في زمنٍ ما، فيُسرِّع بها عمليَّة التَّحلُّل الطَّبيعيَّة للُّحومِ، على وتيرةٍ لم تكن عليها قبل ذلك، وكذا على خَلْقِ جراثيم جديدةٍ تزيد مِن شدَّة الفسادِ ونشوءِ تعفُّناتٍ وخبثِ غازاتٍ في عمليَّة التَّحلُّل لم توجد قبل ذلك؛ لا مانع مِن هذا كلِّه مِن جِهة العقل، ولا العلمُ الحديث يُحيله، ولا الحِسُّ قادرٌ على نَفيِه، كونه أمرًا قد مَضى ليس في حيِّز المُشاهدة.

مِثلُ هذا -من جِهة الوقوعِ- كأيِّ مرضٍ جديدٍ نَشأ في مكانٍ مُعيَّن في زمنٍ غابر قديمٍ، ثمَّ ما لبِث أن انتشَرَ في النَّاسِ على اختلافِ أمكنتهم وأزمانهم، حتَّى اعتادَ النَّاس عليه، وتناسوا بعد قرونٍ مَنشأه الأوَّل وسَبَبه.


(١) «شرح المصابيح» لابن الملك (٤/ ٧).
(٢) نعم، في عبارات بعض الشُّرَّاح ما قد يُفهم منها أنَّ أصل فساد اللَّحم بدأ من ادِّخار بني إسرائيل له، كما تراه مثلًا في كلام النووي في «شرح صحيح مسلم» (١٠/ ٥٩)، وأبي العباس القرطبي في «المفهم» (١٣/ ٦٧)، والظَّاهر أنَّه تجوُّز في نقل عباراتِ مَن تقدَّمهم من الشُّراح وعدم تدقيق فيها، وإلَّا فقد قدَّمنا أنَّ أصل الفساد وتحلُّلِ اللُّحوم قديم معلوم.

<<  <  ج: ص:  >  >>