للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والمقصود مِن هذا: بيان الفرقِ بين تحلُّل الأبدانِ وبين نَتَنِها؛ فإنَّ تَحلُّلها شيء -وهو حقيقة قديمةٍ بقدمِ الحيوانِ كما قد قرَّرناه- ونتَنُها وتَعفُّنها على الوجهِ الَّذي شرحناه شيءٌ آخر،؛ فلرُبَّما كان يَفنى الحيوانُ ويتَحلَّل مع الوقتِ الطَّويلِ، دون ما يلزم على ذلك عندنا مِن العَفن والإنتانِ في أوَّلِه؛ هذا مِن الأمورِ الغيبيَّة الَّتي لا يُقطع فيها بشيءٍ، ولا علماء البيولوجيا قادرون على جَلْبِ دليلٍ علميٍّ تاريخيٍّ عليه، اللَّهم إلَّا القول باطِّراد النَّواميس الخلقيَّة في القِدم! وليس هذا بلازمٍ.

وكنَّا قدَّمنا القول بأنَّ التَّعفُّن ليس واجبًا مِن جِهة العقل، ووقوعه حِسًّا لا يلزم منه أزليَّتُه، والخالق سبحانه قادرٌ على تغيِير سُنَّة خَلقيَّة، أو منعِ جريانِها على بعض مخلوقاتِه، كتحريمِه أكلَ الأرضِ لأجسادِ الأنبياء عليهم السَّلام.

لتعلمَ بهذا أنَّ دعوى (عمراني حنشي) أنَّ تَلَف اللَّحم بالتَّعفُّن والإنتانِ سُنَّة كونيَّة قديمة: قولٌ لا طائل من وراءه، وتهويلٌ للقارئ بحشدِ مُصطلحاتٍ علميَّةٍ، لا تُجدي مع لبيبِ الفهم!

لكن الأدهى مِن هذا كلِّه: افتراءُه على همَّام بن منبِّه تهمةَ الكذب! وأنَّه الَّذي اخترعَ هذا الخَبر! سبحانك هذا بُهتانٌ عظيم؛ لم يسبقه إليه أحَدٌ مِن علماء الأمَّة! فحسبُنا الله.

والقول الثَّالث في معنى الحديث: أنَّ بني إسرائيل كانوا لشُحِّهم وحرصِهم يدَّخرون الأطعمة، حتَّى ما لا يصحُّ ادِّخاره كاللَّحم! فكانوا أوَّل مَن أشاعَ هذه السُّنة السَّيئة على خلاف عادة النَّاس، فصار ادِّخارُهم هذا سببًا في إشاعةِ هذا الشحُّ، حتَّى فضَّلوا ادِّخارَ الأطعمة شجعًا ولو فسدت بعد زمنٍ على أن ينفقوها في وجوه الخير.

يقول البيضاويُّ: «المعنى: لولا أنَّ بني إسرائيل سنُّوا ادِّخار اللَّحم حتَّى خَنز، لمَا ادُّخر فلم يخنز» (١).


(١) «تحفة الأبرار» للبيضاوي (٢/ ٣٧٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>