للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خلقِ حوَّاء مِن آدم، ناسَبَ التَّعبير عنه بقوله: (خلق)؛ بينما آيَتا الأعراف والنَّحل: حين لم يُرَد بهما حقيقةُ الخلقِ مِن نفسِ آدم، عُبِّر عن ذلك بلفظِ (جعل)، لأنَّ الجعل لا يَلزم منه الخلق! فكلُّ خلقٍ جعل، وليس كلُّ جعلٍ خلْقًا، فبينهما عموم وخصوص.

وفي تقرير هذا المعنى الفارقِ الدَّقيق بين اللَّفظين، يقول بدر الدِّين الزَّركشي (ت ٧٩٤ هـ):

«الخَلق يكون عن عدمٍ سابقٍ، حيث لا يَتقدَّمه مادَّة ولا سبب مَحسوس، والجَعل يَتوقَّف على موجودٍ مُغاير للمَجعول، يكون منه المَجعول أو عنه، كالمادَّة والسَّبب، ولا يرِد في القرآن العظيم لفظ (جعل) في الأكثرِ مُرادًا به الخلق إلَّا حيث يكون قبله ما يكون عنه أو منه، أو شيئًا فيه مَحسوسًا، عنه يكون ذلك المخلوق الثَّاني، بخلاف (خلق)، فإنَّ العبارةَ تَقع كثيرًا به عمَّا لم يَتقدَّم وجودُه وجودٌ مُغاير يكون عنه هذا الثَّاني» (١).

وحاصل القولِ: أنَّ مثل هذا التَّنوُّع في اللَّفظِ القرآنيِّ وتَباينِ سياقاتِ الآياتِ، ممَّا يدلِّل على أحقيَّةِ القولِ الأوَّلِ بالصَّواب، ومَن قال بأنَّ المَعنى خَلْقُها مِن جِنسِها ونوعِها لم يَأتِ بطائلٍ به، لأنَّ ذلك -كما يقرِّره ابنُ عاشور (٢) - لا يختصُّ بنوعِ الإنسانِ، فإنَّ أنثى كلِّ نوعٍ هي مِن نوعِه أيضًا (٣)!


(١) «البرهان» للزركشي (٤/ ١٢٩).
(٢) «التحرير والتنوير» (٤/ ٢١٥).
(٣) وما تنازعت فيه بعض الحضارات القديمة من أصحاب المعتقدات الفاسدة في حقيقة المرأة، إنَّما مردُّ جملتِه إلى طبيعة روحِها: أحيوانيَّة أم إنسيَّة، أشيطانيَّة أم آدميَّة، ألهَا روح أصلًا أم لا، لأيِّ شيء خُلقت .. ونحو ذلك، وما اعترض به (عدنان إبراهيم) في خطبتِه -السَّالفة الذكر- من أمثلةٍ على كلام ابن عاشور هو من هذا القبيل المتعلِّق بطبيعة روحِها ودرجتها والمقصد من خلقها، ولم يكن ثمَّة خلاف في آدميَّتها، وحتَّى إن كان فهو محصور مهجور غير ذي بال، فهؤلاء الفِرَنجة (الفرنسيُّون) قد عقدوا مؤتمرهم سنةَ (٥٨٦ م) -أي زمنَ شباب النَّبي صلى الله عليه وسلم- للبحث في آدميَّة المرأة من عدمها، وهل لها روح أم ليس لها روح؟ .. خلصوا في النهاية إلى أنَّها إنسان، لكنها خُلقت لخدمة الرَّجل فقط، انظر «عودة الحجاب» لإسماعيل المقدم (٢/ ٥٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>