للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثمَّ ظَهَرت لي إشارةٌ قرآنيَّةٌ أخرى، تفيد ما قرَّرْناه في مَعنى آية النِّساء أنَّها في خلقِ حوَّاء من نفسِ آدم: وهي الَّتي في قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: ٥٩].

فالله يُوجِّه الخطابَ فيها للنَّصارى قائلًا: إنْ كان عَجَبُكم مِن خلقِ عيسى عليه السلام مِن غير ذَكَرٍ قد ساقَكَم إلى القولِ بألوهيَّتِه وبُنوَّتِه لنا، فقد علِمتُم أنَّ خلقَ آدم عليه السلام أعجبُ مِن خلقِ عيسى عليه السلام، فإنَّه خُلِق مِن ترابٍ مِن غير ذكرٍ ولا أنثى! يحتجُّ عليهم بأنَّ المسيحَ هو مثل آدم عبدٌ وليس بإله.

الشَّاهد عندي من هذا: أنَّ إفرادَ ذِكرِ آدم بهذه الخِلقة التُّرابيَّة العَجيبِة، دون قَرْنِ حوَّاء به فيها: دَالٌّ على اختصاصِ آدم بها دون حوَّاء وسائرِ الخلقِ! إذْ لا معنًى لإهمالِ ذكرِ حوَّاء في هذا المِثالِ الحِجاجيِّ لو امتازَت بنفسِ الحالةِ الخِلقيَّة الَّتي امتازَ بها زوجُها آدم مِن هذا الوصفِ الَّذي حاجَّ به الله تعالى النَّصارى، والله تعالى أعلم.

ومُحصَّل القول في هذه المسألة:

أنَّ لفظَ الزَّوجِ في آيةِ النِّساء: أُريد به الأنثى الأُولى الَّتي تنَاسل منها البَشر، وهي حوَّاء، وأُطلِق عليها اسمُ الزَّوج: لأنَّ الرَّجل يكون مُنفِردًا، فإذا اتَّخذَ امرأةً فقد صارا زوجًا في بيتٍ، فكلُّ واحدٍ منهما زَوجٌ للآخر (١).

وأمَّا دعوى (عدنان إبراهيم) أنَّ لفظَ الزَّوج في آيةِ النِّساءِ عائدٌ إلى آدم، اعتمادًا منه على فهمِه الشَّاذ لآية الأعراف: هو فيها مخالفٌ للإجماع! فلا حاجة إلى تَكلُّفِ ردِّه.

ثمَّ الصَّحيح أنَّ {مِن} في قوله تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا}: تَبعيضيَّةٌ تفيد الابتداء، ومعنى التَّبعيض فيها: أنَّه سبحانه أخرجَ خلقَ حوَّاء مِن جزءٍ من آدم.

وقد جاءت أقوال السَّلف في تحديدِ هذا الجزء في الضِّلع، فساغَ بهذا حملُ حديثِ: «خُلقت مِن ضلع» على حقيقتِه ولا حَرج.


(١) انظر «التحرير والتنوير» (٤/ ٢١٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>