للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهذا المعنى الَّذي جعله المُرادَ من الحديث، ليس إلَّا معنًى مِن معاني العقل! ليس هو معنى العقل كلِّه (١)، وليس هو المُراد من الحديث حتمًا! إذ بيَّن النَّبي صلى الله عليه وسلم نفسُه ماذا أراد مِن معناه فيه، حين جَعل مُقتضاه عدمَ مساواةِ شهادة المرأة لشهادة الرَّجل، من قوله تعالى: {أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: ٢٨٢].

فإذا كان المُراد بالضَّلال في الآية: النِّسيان (٢) -إذ استظهار الشَّاهدة بأخرى مؤذِنٌ بقلَّة ضبطها في الأصل- فإنَّ مُراد النَّبي صلى الله عليه وسلم بالعقل في الحديث هو ما به يُضبط العلم ويُثبَّت، وهذا معنًى من معاني العقل صحيحٌ، «وهي طريقة مَن اتَّبع حكمَ اللُّغة؛ لأنَّ العلم والعقل في اللِّسان بمعنًى واحد، فلا يفرِّقون بين قولهم عَقَلْتُ وعلمْتُ» (٣).

فإذا كان معنى العقل هنا راجعًا إلى أصلِه في اللُّغة، وهو ضبط المعلومةِ وتثبيتها في الذِّهن: فإنَّ وصفهنَّ في الحديث بنقصِ العقلِ لأجلِ النِّسيان وقلَّة الضَّبط هو على ظاهره؛ لأنَّ ذلك نقصٌ في المعلوم، وضبط المعلومِ وحفظه مِن أظهر مهامِ العقلِ ووظائفه، فإذا كان النَّقص في الصَّفات نقصًا في الموصوف بداهةً، فإنَّ النَّقص في هذه الوظائف العقليَّة نقصٌ في العقل، لكنَّه نقصٌ من جِهة ضعفِ بعضِ الصِّفاتِ، وليس نقصًا مُطلقًا.

يقول ابن تيميَّة: « .. العقل مصدرُ عَقل يعقِل عقلًا: إذا ضَبَط وأمسَكَ ما يعلَمه؛ وضبط المرأةِ وإمساكها لمِا تعلمه أضعفُ مِن ضبطِ الرَّجل وإمساكِه، ومنه سُمِّي العِقال عِقالًا، لأنَّه يُمسك البعيرَ ويجرُّه ويضبِطه، وقد شبَّه النَّبي صلى الله عليه وسلم ضبطَ


(١) على خلافٍ بين العلماء في حَدِّ العقل المشتَرَطِ في حَدِّ التَّكليف ليس هذا موضع ذكره انظر في ذلك «ماهية العقل ومعناه واختلاف الناس فيه» للمحاسبي (بدءً من ص/٢١٠)، و «البرهان» للجويني (١/ ١٩)، و «قواطع الأدلة» للسمعاني (١/ ٢٧).
(٢) مأخوذ مِن قولهم: ضلَّ الطَّريق: إذا أضاعه ولم يهتد له، «الكشاف» للزمخشري (١/ ٣٢٦).
(٣) «إكمال المعلم» للقاضي عياض (١/ ٣٣٨ - ٣٣٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>