للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثمَّ نقلُهم عن أبي حنيفة أنَّها تَقضي فيما يَصِحُّ أن تشهدَ فيه: قد حُمِلَ على معنى صِحَّةِ حكمِها في القضيَّة الواحدة ونحوِها على سبيلِ التَّحكيم والاستنابةِ فقط (١).

لكن لا بدَّ أن نعلمَ: أنَّ هذا الحكمَ المُستفادَ من الخَبَرِ في منعِ المرأة مِن إمامةِ العامَّة، ليس حُكمًا تَعبُّديًّا يُقصَد مجرَّدُ امتثالِه دون التماس حكمتِه، بل هو مِن الأحكامِ المُعلَّلة بمَعانٍ واعتباراتٍ لا يجهلها الواقفون على الفروقِ الطَّبيعيَّة بين جِنسَي الرَّجل والمرأة، وقد تقدَّم لَفْتُ الفِكرِ إلى بعضِها.

وصَدَق أحدُ الكُتَّاب الغَرْبيِّينِ إذْ يقول: «إنَّ الحياة هيِّنةٌ وطيِّبة، إذا عَلِم كلٌّ مِن الرَّجل والمرأة المحلَّ الَّذي خصَّصه الله لكلٍّ منهما!» (٢).

إنَّا لا نستنكِفُ أن نقولَ للعالَم أنَّ المرأة بمُقتضى الخَلقِ والتَّكوينِ مَطبوعةٌ على غرائز تُناسب إحدى أسمى المهمَّاتِ الَّتي خُلِقت لأجلِها: إنَّها مهمَّةَ الأمومة، وحضانةِ النَّاشئةِ، وتَربيتِهم وتَعليمِهم، وإقامةِ صَرْحِ الأمَّةِ على رِعايتِهم؛ فهذه المَهامُّ جَعَلتها ذاتَ تأثُّرٍ خاصٍّ بدَواعي العاطفة.

ثمَّ هي مع ذلك كلِّه تَعرِض لها عوارضُ طَبيعيَّة تَتكرَّر عليها في الأشهرِ والأعوام، مِن شأنِها أن تُضعِفَ قوَّتها المَعنويَّة والَجسديَّة، وتوهِنَ مِن عَزيمتِها في تكوين الرَّأي والتَّمسكِ به، والقدرةِ على الكفاحِ والمقاومةِ في سبيلِه.

والحقُّ أنَّ الإمامةَ والسِّياسةَ تستدعيان في أغلبِ أوقاتها عَزمًا وإقدامًا وجَلادة، وبعدًا في التَّفكير، وسدادًا في المنطق، وحسابًا دقيقًا للعواقب، وصبرًا مُضنِيًا، وضبطًا للعواطف، ففيهما مِن المزالق الخفيَّة، والأخطار الكامنة، ما الله به عليم؛ وللمرأةِ لِينٌ في القلب، ورِقَّة في المِزاج، وإحجامٌ عن المواقفِ الخَطِرة، وهو حَالٌ لا تُنكره النِّساء مِن أنفسِهنَّ.


(١) وفي نَفيِ هذا القول عن أبي حنيفة والطَّبري، انظر «أحكام القرآن» لابن العربي (٣/ ٤٨٢).
(٢) «من هنا نعلم» للغزالي (ص/١٥٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>