للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الخِطاب، فعلى هذا المنهج القويمِ نبتني تفسيرَنا للحديث، وهذا ما يقتضي مِنَّا أن نبدأ فيه بتبيانِ مَعنى (التَّطيُّر) عند العرب أوَّلًا، ثمَّ ندلِف إلى أمثلِ أوجهِ ذلك مِمَّا يُحمَل عليه الحديث، فنقول:

إنَّ التَّطير والتَّشاؤم بمعنى واحدٍ (١)، وأصله: الشَّيء المَكروه مِن قولٍ أو فعلٍ أو مَرئيٍّ، والتَّطيُّر قبلِ الإسلامِ كان مِن وجوهٍ، حكى بعضَها الحَليميُّ (ت ٤٠٣ هـ) فقال:

«كان يُحكى عن العَرب مِن زجرِ الطَّير وإزعاجِها عن أوكارِها عند إرادةِ الخروجِ للحاجةِ، فإن مَرَّت على اليمينِ، تفاءلت به، ومَضت لوجهِها، وإن مرَّت عن الشِّمال، تشاءَمت به، وقعدت.

وكانوا يَتطيَّرون بصوتِ الغُرابِ، ويناولونه البَين، وكانوا يستدلُّون بمجاوباتِ الطَّير بعضها بعضًا على أمورٍ بأصواتِها في غيرِ أوقاتِها المعهودةِ على مثل ذلك.

وهكذا الظِّباء إذا مَرَّت سانحةً، ويقولون: إذا برَحت مساءً بالسَّانح بعد البارح، وسمُّوا هذا وما شابهه تطيُّرًا، لأنَّ أمور ذلك عندهم وأكثره كان ما يقع لهم مِن قِبَل الطَّير، فسمُّوا الجميع تَطيُّرًا مِن هذا الوجه .. » (٢)؛ ثمَّ استرسل في حكايةِ صُورٍ أخرى مِن التَّطَيُّر سالفة، كانت عند الأعاجم قبل الإسلام.

إلى أن جاء الشَّرع، فنَفى ذلك وأبطلَه كلَّه، ونَهى عنه، وأخبرَ أنَّه ليس له تأثير بنفعٍ ولا ضرٍّ، وهذا مَعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «لا طِيَرة .. » (٣)، وفي حديث آخر: «الطِّيَرة شِرك» (٤)، يقول النَّووي في معناه: «أي اعتقادُ أنَّها تنفع أو تضرُّ إذا عملوا


(١) «المجموع المغيث» لأبي موسى المديني (٢/ ٣٧٨)
(٢) «المنهاج في شعب الإيمان» للحليمي (٢/ ٢٠).
(٣) جزء من حديث أخرجه البخاري في (ك: الطب، باب الجذام، رقم: ٥٧٠٧)، ومسلم في (ك: الطب والمرضى والرقى، باب لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر، ولا نوء، ولا غول، ولا يورد ممرض على مصح، رقم: ٢٢٢٠).
(٤) أخرجه أبو داود في (ك: الطب، باب: في الطيرة، رقم: ٣٩١٠)، وابن ماجه في (ك: الطب، باب من كان يعجبه الفأل ويكره الطيرة، رقم: ٣٥٣٨)، وصحَّحه ابن حبَّان في «صحيحه» (ك: الطيرة والعدوى والفأل، باب: ذكر التغليظ على من تطير في أسبابه متعريا عن التوكل فيها، رقم: ٦١٢٢)، وأقرَّه عليه شعيب الأرنؤوط في تخريجه به.

<<  <  ج: ص:  >  >>