للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فكلُّ هذه الآثار واردةٌ بأداةِ القَصر، صريحةٌ في أنَّ الرَّضاع المُحرِّم إنمَّا يكون في الحَوْلين لا غير، واضحةُ الدَّلالة على أنَّ الرَّضاع المُعتَبر شرعًا إنَّما يثبت حكمه متى كان الرَّضيع يستغني باللَّبن عن غيره؛ وهذا ما لا يثبتُ في رَضاع الكَبير.

لكن عائشة رضي الله عنها قد احتجَّت بما رَوَته في شأنِ سهلة بنت سهيل مع سالم، حيث فهِمت منه مُطلق تحريمِ الرَّضاعِ دون تقيِيدٍ بالحَوْلَين، فلذا كانت تأمرُ بناتِ إخوتِها وبناتِ أخواتها أن يُرضِعن مَن أحَبَّت أن يَراها ويدخلَ عليها -وإن كان كبيرًا- خمسَ رَضعات، ثمَّ يدخل عليها (١).

لكن سائر أزواج النَّبي صلى الله عليه وسلم قد خالفنها في هذا الفهم، وأَبَيْنَ أن يَدخُلَ عليهنَّ بتلك الرَّضاعةِ أَحدٌ مِن النَّاس، إلَّا أن يَرضع في المَهد، وقُلنَ لها: «والله ما نَرى هذا إلَّا رُخصةً أرْخَصَها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالمٍ خاصَّة» (٢).

وقولُ عائشة رضي الله عنها هذا -على ما كسَاها الله به مِن جلالِ العلمِ وجميلِ الفَهمِ- اجتهادٌ منها خلافُ مجموعِ دلائلِ الكتابِ والسُّنة، وما جرى عليه فهمُ الأئمَّةِ لقضيَّةِ سَهْلة مع سالمٍ رضي الله عنهم.

فأمَّا دلائل الوحيِ: فقد مرَّ ذكر أشهرِها قريبًا.

وأمَّا عَملُ الأمَّة: فقد نَقلَ الباجيُّ (ت ٤٧٤ هـ) انعقادَ الإجماعِ على عدمِ التَّحريم برضاعةِ الكَبير (٣).

وقال القاضي عياض: «الخِلافُ إنَّما كان أوَّلًا، ثمَّ انقطع» (٤).

وحَكى الخطابيُّ (ت ٣٨٨ هـ) ذهابَ عامَّةِ أهلِ العلمِ إلى حديث أمِّ سَلَمة رضي الله عنها في إنكارِها لفهمِ عائشةَ رضي الله عنها، فلم يَروا العملَ بمذهبِها فيما رَوته، وحَمَلوه على أحد وَجهين:


(١) «سنن أبي داود» (ك: النكاح، باب: فيمن حرم به، رقم: ٢٠٦١).
(٢) أخرجه مسلم في (ك: الرضاع، باب: رضاعة الكبير، رقم: ١٤٥٤).
(٣) «المنتقى» (٤/ ١٥٥).
(٤) «إكمال المعلم» (٤/ ٦٤٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>