للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أمَّا موجب التَّخصيص من جِهة المعنى: فلأنَّ الشَّريعةَ إنَّما جَعلت للرَّضاعِ تلك الحُرمةَ لأجلِ ما أشبهَ به النَّسَب في استبقاءِ حياةِ الطِّفل، واختلاطِ لَبَنِ المُرضِع بلحمِه ودمِه حين لا يُغني عنه غيره (١).

وأمَّا المُوجِب الثَّالث: فالظَّرف الاجتماعيُّ الاستثنائيُّ لورودِ الحديث، وهو مُقتضى تقريرِ الخصوصيَّة: حيث أبانت عائشة نفسُها «أنَّ أبا حذيفة رضي الله عنه تَبَنَّى سالمًا، .. كما تبنَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدًا، وكان مَن تبنَّى رجلًا في الجاهلية دَعاه النَّاس إليه، وورِث مِن ميراثه، حتَّى أنزل الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} .. ».

فأصلُ قصَّة سهلةَ وسالمٍ رضي الله عنهما إنَّما كان نتيجةَ إلغاءِ التَّبنِّي في المجتمعِ الإسلاميِّ، وهذه حالةٌ خاصَّة لا تقعُ إلَّا زَمن التَّشريع، فكان وقوعُ التَّرخيص مُترتِّبًا على إلغاء ذلك الَّذي أدَّى إلى خُلطةِ مثلِ سالمٍ بسَهْلة، وتنزيلِها إيَّاه منزلةَ الوَلد، مع عجزِ المُتَبنَّى عن استقلالِه ببَيتٍ، لقِلَّةِ ذات اليَدِ، وحاجتهم إليه.

وفي تقريرِ هذا المعنى الدَّقيق لموجب التَّخصيص، يقول الطَّاهر ابن عاشور:

«لا ينبغي أن يُشكَّ في أنَّ إذْنَ النَّبي صلى الله عليه وسلم لسهلة بنت سهيل في أن يَدخل عليها سالمٌ مولى أبي حذيفة -مُتبنَّى أبي حذيفة زوجِها- إنَّما كان على وجهِ الرُّخصة لها، إذْ كان حكم إرجاعِ المُتَبنَّين إلى الحقيقةِ -في اعتبارِهم أجانبَ مِن جِهةِ النَّسَب- حُكمًا قد فاجَأَهم، في حين كان التَّبنِّي فاشيًا بينهم، وكانوا يجعلون للمُتبنَّين مثل ما للأبناء، فشَقَّ ذلك عليهم، وامتثلوا أمرَ الله في إبطاله.

وكانت سهلة زوجُ أبي حذيفة بحالِ احتياجٍ إلى خدمة سالمٍ واختلاطِه بهم، إذ لم يكن إلَّا بيتٌ واحد، فعَذَرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورَخَّص لها أن يَدخُل سالمٌ عليها وهي فُضُل (٢)، وجَعل تلك الرُّخصة مُعضدةً بعمَلٍ يُشبه ما يُبِيح الدُّخولَ


(١) «كشف المُغطَّى» لابن عاشور (ص/٢٦٩).
(٢) فُضُل: أي مبتذلة في ثياب مهنتي، يقال: تفضَّلت المرأة: إذا تبذَّلت في ثيابِ مِهنتها، انظر «طرح التثريب» (٧/ ١٣٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>