للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

-مثلًا- في قول (أبو ريَّة): «لم نَجِد في هذا العصرِ، بل في العصورِ الأخيرة، مَن فَطِنَ لدهاءِ كعب ووَهبٍ وكيدهِما، مثلَ الفقيه المحدِّث محمَّد رشيد رضا .. » (١).

ومع أنَّ الاتِّهام الَّذي وُجِه إلى كعبٍ بالزَّندقةِ تُهمة خطيرة، مُعرَّضٌ صاحبُها للعذابِ الشَّديدِ -والعياذ بالله-، فقد كان أغلبُ مَن رَماه بذلك البُهتان مُجرَّدَ مُنساقٍ وراء ما سَاقَه (رشيد رضا) مِن شُبَهٍ يَراها دلائلَ على ثبوتِ دعاوي المُستشرقِين عليه، ولم يَزيدوا على ما ذَكر رشيدٌ غيرَ تقميشِ رواياتٍ مُعضَلةٍ لا خِطام لها ولا أزِمَّة.

وكان حاصلُ احتجاجِ (رشيد رضا) علي كَعبِ الأحبارِ راجعًا إلى دليلين:

أوَّلهما: أثرٌ لمعاوية بنِ أبي سفيان رضي الله عنه، فَهِمَ منه تكذيبَه لكعبٍ.

والثَّاني: أنَّ ما جاء به مِن الإسرائيليَّات لا توجد في نُسَخِ التَّوراة الَّتي بين أيْدِينا.

فأمَّا دليله الأوَّل: فيعني به ما أخرجه البخاريُّ في «صحيحه»، عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، أنَّه كان يُحَدِّث رهْطًا مِن قريشٍ بالمدينة، وذُكِر كعبُ الأحبار، فقال: «إنْ كان مِن أصدقِ هؤلاء المُحدِّثين الَّذين يُحدِّثون عن أهلِ الكتاب، وإنْ كُنَّا مع ذلك لنَبلُو عليه الكذِبَ» (٢).

يقول (رشيد رضا): «إنَّ قولَ معاوية .. طعنٌ صريحٌ في عدالتِه، وفي عدالةِ جمهورِ رُواةِ الإسرائيليَّات، إذ ثَبَت كذبُ مَن يُعَدُّ مِن أصدقِهم» (٣).

والجوابُ عليه في هذا الاستدلال أن يُقال: إنَّ فهمَه مِن كلامِ معاوية رضي الله عنه تكذيبًا للهجةِ كعبٍ، وطعنَه في عدالته، فهمٌ بعيدٌ عن مُرادِ قائِله! يظهر وَهاؤُه إذا عَلِمنا أنَّ أحدًا مِن العلماءِ المتُقدِّمين قبلَه لم يَفهم هذا مِن كلامِه، وكانوا أعلمَ مِن رَشيدٍ باللِّسانِ، ومَعاني الكلام، وأجمعَ منه لمِا يحتَفُّ بالقَضايا العِلميَّة المَبحوثِ فيها مِن قرائن وأدلَّة.


(١) «أضواء على السنة المحمدية» (ص/١٣٧)، وانظر «أضواء على الصَّحيحين» (ص/٢٢٧).
(٢) أخرجه البخاري (ك: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء»، برقم: ٧٣٦١).
(٣) «مجلة المنار» (٢٦/ ٧٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>