فكان حَريًّا بكلِّ مَن آنس مِن نفسِه بصَرًا وفقهًا مُفصَّلًا بأصول أهل السُّنة في نقدِ الأخبار، أن يواكب في هذا ميزات أهل عصره، فيسعى جاهدًا في استنباطِ الدَّلائل العقليَّة الَّتي أسَّس عليها المُحدِّثون كلَّ بابٍ من أبوابِ علم الحديث، للكشفِ عن عبقريَّة أسلافِنا في خدمة دينِهم، وسُنَّة نَبيِّهم، وردِّ كيدِ المُستخفِّين بهم في نُحورِهم، وليُعلَم به سَلامةُ ما أصَلَّه أئمَّةُ الحديث وصَيارِفَتُه.
ثانيًا: مع قلَّةِ النُّباحِ على قافلةِ «الصَّحيحين» في بعض البلدان -كبلدي المغرب- مقارنةً بحالِ كثيرٍ من بلدان المَشرق، فإنَّ ما نشهده مُؤخَّرًا مِن تزايُد الهجوم عندنا على البخاريِّ بخاصَّة -وإن كان بشكلٍ مُتقَطِّعٍ- نذيرُ شؤمٍ! فإنَّ بعض الشَّر يبدأ به المُفسدون صغيرًا، جسًّا لنبضِ المُصلحين، وتمهيدًا لِما بعده! {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}[النمل: ٣٥].
فلذا أهيبُ بمَن يحملون في قلوبِهم هَمَّ هذا الدِّين وحُبَّ وَطَنِهم، وقَلَقًا على المُستقبل الفِكريِّ للأجيالِ القادمة، أن يُسارعوا إلى الوقاية من هذه الأمراض المُعدية قبل العلاج، فـ:
يُبادروا إلى إقامة المَشاريع الفكريَّة التَّحصينيَّة، بدَلَ الاكتفاء بردود الأفعال تُجاه ما نراه بين الفينة بعد الأخرى من الاعتداءِ على السُّنة؛ وذلك بإقامة مَحافل ومراكز عِلميَّة (جادَّة!) تَسهرُ على رصدِ الغارةِ المُعاصرة على أصول التَّشريع، وإصدارِ الدِّراسات المُحقَّقة الَّتي تعرضُ علومَ السُّنة بخطابٍ بُرهانيٍّ مُقنِعٍ فكرًا وصورةً، عبر استغلالِ التَّقنيات الحديثة في الإعلام.
ومِن هنا؛ أدعو وزارةَ الأوقافِ والشُّؤونِ الإسلاميَّةِ بمَمْلَكَتِنا الشَّريفة، إلى إحياءِ سُنَّةٍ للمغاربةِ تَعاقبوا عليها قرونًا مِن الزَّمن إلى عهدِ الاحتلالِ الفَرنسيِّ! يَتَقدَّمُهم سَلاطينِهم النُّبَلاء، إلى إحياء كَراسٍ لصحيح البخاريِّ في كُبرياتِ المَساجد في كلِّ ناحيةٍ مِن هذا البلد الكريم، لتُضيء الأنوارُ النَّبويَّة من هذا السِّفْرِ النَّفيسِ قلوبَ المُسلمين في بيوتِ الله كما كانت، ولتزيد الرَّابطة الرُّوحيَّة بينهم وبين نَفَحاتِه السَّنيَّةِ على مَدارِ السَّنة، قراءةً مُرصَّعةً في جَبين الزَّمن لبديعِ ألفاظِه،