للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي تقرير هذا الوجه من الرَّد، يقول أبو عبد الله الحاكم: «إنَّ كتابَيهما -يعني الصَّحيحين- لا يشتمِلان على كلِّ ما يَصِحُّ من الحديثِ، وإنَّهما لم يحكُما أنَّ مَن لم يُخرِجاه في كتابَيهما مجروحٌ أو غير صِدقٍ» (١).

وانظر بعدُ إلى عقلِ الخطيب البغداديِّ، وليُقتدى بإنصافِه -مع ما اشَتَهر عنه مِن القوَّةِ في الردِّ- لم يَستفزَّه ترك البخاريِّ روايةَ إمامِه الشَّافعيِّ في «صحيحه»، فلم يَبنِ قِبابًا مِن الأوهامِ -كما تفعل الإماميَّة- فيَصيح مِن أعلاها مُشنِّعًا: ويْلَك يا بُخاري، قد أزريتَ بنفسك!

بل بيَّن الخطيب بكلِّ مَوضوعيَّة وهدوء، أنَّ البخاريَّ لم يختر ترك الرِّواية عن إمامِه الشَّافعيِّ وأضرابِه مِمَّن تَقدَّم ذكرُهم لمعنى يُوجِب ضعفَهم عنده؛ ولكن -كما قال الخطيب- قد يفعلُه البخاريُّ استغناءً بما هو أعلى منهم، فيَروِي عَمَّن هو أكبرُ منهم سِنًّا وأقدمُ سَماعًا؛ ثمَّ ضَرَبَ أمثلةً مِن أقرانٍ للشَّافعي وشيوخٍ له أدركَهم، روَى عنهم البخاريُّ دونَه (٢)؛ والشَّافعي ماتَ مُكتَهِلًا، فلا يَرويه البخاريُّ نازِلًا؛ وإن كان قد رَوَى هو عن الحسين وأبي ثورٍ مسائلَ عن الشَّافعي (٣).

الثَّاني: أنَّ جعفرًا على فرضِ أنَّ البخاريَّ يَراه ناقصًا عن مَرْتَبة الضَّابط في الصَّحيح، فإنَّه لم يَشُذَّ بذلك عن اتِّفاق أهل هذا الفنِّ حتَّى يُشَنَّع عليه! فإنَّ مِن بعضِ النُّقاد مَن تكَلَّم في حديثِه أيضًا، كشيخِه أحمد بن حنبل، حيث قال: «جعفر بن محمَّد، ضعيفُ الحديث مُضطربٌ» (٤).

وحين سُئِل يحيى بن سعيد القطَّان عنه قال: «في نفسي منه شيءٌ، قيل: فمُجالِد؟ قال: مُجالِدٌ أحبُّ إليَّ منه» (٥).


(١) «المدخل إلى الصحيح» للحاكم (ص/١١٢).
(٢) «الاحتجاج بالشَّافعي» للخطيب (ص/٣٨ - ٣٩).
(٣) «طبقات الشَّافعية الكبرى» للسُّبكي (٢/ ٢١٥).
(٤) «العلل ومعرفة الرجال» رواية المروذي (ص/٢٠١).
(٥) «تهذيب الكمال» (٥/ ٧٦).
نعم؛ يحيى بن سعيد مُتعَقَّبٌ في هذا الرَّأي، فقد قال الذَّهبي في «أعلام النبلاء» (٦/ ٢٥٦): «هذه مِن زَلقاتِ يحيى القطَّان، بل أجمعَ أئِمَّة هذا الشَّأن على أنَّ جعفرًا أوثقُ مِن مُجالدٍ، ولم يَلتفِتوا إلى قول يحيى».

<<  <  ج: ص:  >  >>