المُتصِّلِ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم؛ فبانَ أنَّ التَّفريق بين مُتماثلينِ في أصلِ النَّقلِ هو مِن أبطلِ الفروقاتِ عقلًا ودينًا.
فإن كان هذا التَّفريق عند المُنكرين لأجل كونِ القرآن مَرويًّا بالتَّواتر: فإنَّ في السُّنة النَّبويَّة مُتواترٌ كثيرٌ أيضًا! مع أنَّهم لا يُفرِّقون في أصلِ إنكارِهم للسُّنة بين مُتواترِها وآحادِها.
فإذا ثَبَت الخُلف في دعوى المُنكِرين، ثبتَ بطلان ما ذَهبوا إليه، مع بطلانِ قولِهم بعدمِ الحاجةِ إلى شيءٍ في التَّشريعِ غيرِ القرآن، لأنَّا نلزمُهم بأوقاتِ الصَّلواتِ، وعددِ ركعاتها، وأنصبة الزَّكوات، ونحو ذلك من التَّشريعات.
فإن اعترضَ بأنَّ هذا التَّفسير النَّبويَّ مُتواترٌ عمليًّا: فقد أقَرَّ لنا بحجيَّة هذا القسمِ مِن السُّنة، مع نفيِه بادئ الأمرِ للحاجة في التَّشريع إلى غير القرآن أصلًا! فقد كفانا بهذا الجواب لنقضِ دعواه.
لكن نزيده جوابًا آخر فنقول: إنَّ نقلَ السُّنة -في مُجملِها- عن الصَّحابةِ مُتواتر أيضًا، وعن التَّابعين، وهكذا؛ فيصير قولهم ببُطلانِ السُّنة مُتضمِّنًا لتهمة الصَّدر الأوَّل رضي الله عنهم بالتَّقوُّل على الشَّريعة -والله قد زكَّاهم في القرآن- إذْ أحدثوا أمرًا جليلًا في الإسلام لم يُأمروا به، بل كان حَقُّهم أن يَنهوا طُلَّابَهم عن الأخذِ بما يَرْوُونه لهم من أقوالِ النَّبي صلى الله عليه وسلم وأفعالِه؛ لكنَّهم على عكس ذلك قد أقرُّوهم على تداوُلِ تلك السُّنَن المَرويَّات، والعملِ بها، ونقلِها لمِن بعدهم.
ومِن قبيل هذا التَّناقضِ أيضًا -وما أكثر تناقضاتِهم-:
أن يستدلَّ أربابُ هذا المسلكِ بحديثِ «النَّهيِ عن كتابةِ الحديثِ»(١) على إسقاطِ حُجيَّة السُّنة، وهم يتركون في مُقابله أحاديثَ الحثِّ على حفظِها، وتبليغِها، والتَّحذير مِن رَدِّها! والنَّاهي والآمر واحدٌ، لكنَّ الهوى يُعمي ويصمُّ!
(١) وهو ما جاء في صحيح مسلم (رقم: ٣٠٠٤) عن أبي سعيد الخدري، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني، ولا حرج، ومن كذب علي -قال همام: أحسبه قال- متعمدا فليتبوأ مقعده من النار».