للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا ما لمَّحَ إليه المُعجَب به (محمَّد حمزة) بقولِه: «إنَّ حماسَ أبي ريَّة الشَّديد لانتقادِ آراءِ أهلِ السُّنة، أوقَعه -مِن حيث لا يشعر- في قبولِ مَقولات شيعيَّةٍ، بقي الشِّيعة إلى اليوم في كتاباتِهم يُغذُّون بها مِخيالهم الاجتماعيَّ، كفضلِ عليٍّ على بقيَّةِ الخلفاء الرَّاشدين، والعنت الَّذي لقيته فاطمة ابنة الرَّسول صلى الله عليه وسلم مِن أبي بكر» (١).

فلأجلِ هذا التَّلوُّنِ العَقديِّ عند (أبو ريَّة)، والتواءِ قَلَمِه بحسب ما يُمليه هَواه، نجِد أنَّ النَّاقلين عنه مِن خصومِ السُّنَةِ يَنتمون إلى غير تيَّار فكريٍ واحد، ففيهم القرآنيُّ (٢)، والعَلمانيُّ (٣)، وفيهم العَقلانيُّ المُتشرِّع (٤)، فضلًا عن الشِّيعةِ الإماميَّة كما أسلفنا به الذِّكر (٥).

فلأجلِ ما تقدَّم من خليطِ انحرافاتِه صعُب عليَّ تصنيفه في خانةٍ فكريَّةٍ مُحدَّدة، وإن كُنَّا ارتأينا حشْرَه مع زُمرةِ المُنكرين للسُّنةِ أصالةً، فلأنَّ الكُلَّ مُتَّفِقٌ على وُلوغِه في هذه البائقةِ، وانتشارِ رأيِه بخصوصِ الطَّعنِ في أكثر السُّنَن، واهتبالِه بالقرآنِ وحدَه كما يدَّعي، وهذه اللَّبِنةُ الأساسةُ الَّتي شَيَّد عليها القرآنيُّون صرْحَ مذهبِهم بعدُ، مع زعمه أنَّه غيرُ مُنكرٍ للسُّنةِ في أصلِها.

يظهر لك هذا الموقف في مثلِ قولِه: « .. إنَّ الَّذي يجبُ التَّصديق به، واعتقاده، إنَّما هو الخبرُ (المُتواتر) فحسبْ؛ وليس عندنا كتابٌ يجبُ اعتقاد كلِّ ما جاء به اعتقادًا جازمًا يبعث اليقين إلى القلب غير القرآن الكريم، الَّذي جاء مِن طريقِ (التَّواتر) .. أمَّا الأخبار الَّتي جاءت مِن طريقِ الآحاد، وحَمَلتها كتبُ الحديثِ، فإنَّها لا تُعطي اليقينَ، وإنَّما تُعطىي الظَّن، والظنُّ لا يُغني مِن الحقِّ شيئًا!» (٦).


(١) «الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي المعاصر» (ص/٣٣١).
(٢) كصالح أبو بكر، وسامر إسلامبولي، وانظر «مرويات السيرة» لـ د. أكرم العمري (ص/٣٨).
(٣) كـ د. محمَّد حمزة، انظر «الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث» (ص/٩٧).
(٤) كإسماعيل الكردي، انظر كتابه «تفعيل نفعيل قواعد نقد متن الحديث» (ص/١٧٤).
(٥) كجعفر السُّبحاني، انظر كتابه «الحديث النبوي بين الرواية والدراية» (ص/٦٧٨).
(٦) مقال له بعنوان: «معركة الذُّباب»، مَنشور في مجلَّة «الرِّسالة» (بتاريخ ٢٤/ ١٢/١٩٥١ م، العدد: ٩٦٤، ص/٧ - ٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>