للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فبهذا المبدأ من تاريخيَّة النَّص، شَمَّر الحداثيُّون عن أيادي الجدِّ لنزعِ لَبوسِ التَّشريعِ عن السُّنةِ، بانتزاعِ مَعانيها المُطلَقة، ذلك أنَّ الواقعَ المُتطوِّر إذا جاوَز عندهم العملَ بحرفيَّاتِ نصوصِ الشَّريعة، لجأ النَّاس حينها لا محالة إلى مُخرجاتِ عقولِهم مِن قوانين وضعيَّة.

وهم لتحقيقِ هذا الهدف يسلكون مَسالِك شتَّى لإسقاطِ اعتبارِ هذه السُّنة المُبارَكة، مُجملُ ذلك عائدٌ -كما قُلنا- إلى دعواهم أنَّها مُجرَّدُ عاداتٍ وتقاليدَ قديمة، لا تلزمُ عصرَنا في شيءٍ (١)، وأنَّ التزامَها كان «السَّببَ في تحنيطِ الإسلامِ، وتَخلُّفِ أهلِه» (٢)! لأنَّها إنَّما ناسَبَت مَرحلةً وبيئةً مُعَيَّنتين لا تُوافقان ما نحن فيه، فالاكتفاءُ بمَقاصِدها كان إذن أوْلى (٣).

فبهذه الحُجَّة المُسمَّاةِ بـ «التَّاريخيَّة أو التَّاريخانيَّة» تَوسَّل كثيرٌ مِن العَلمانيِّين لتحنيطِ السُّنة النَّبوية، وحَبسِها داخلَ حدودِ الجزيرةِ العربيَّة زمَنَ الإسلامِ الأوَّل، كونُها مجرَّد تفاعلٍ تاريخيٍّ يُلائم ظروفَ العَرب ومَن حولهَم آنذاك، فأحاديثُها «لا تَصف وقائعَ، بقدرِ ما هي مُجرَّد قراءةٍ لا أكثر، قراءةٍ في العالَم، أو كتابةٍ للحياةِ، بوَصفِها خِبرةً، أو تجربةً، أو مُعايشةً» (٤).

وهذا ما يُنتِج عند (علي مبروك) (٥) «أنَّ لكلِّ عَصرٍ الحقُّ في أن تكون له قراءتُه، بل وصياغتُه لمُجملِ التَّصوُّراتِ العَقائديَّة» (٦)، فيكونَ لكلِّ عَصرٍ فهمه الخاصُّ للنُّصوص، ولكلِّ عَصرٍ شريعتُه!


(١) انظر «الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية» لنصر أبو زيد (ص/٤٠)، و «حقيقة الحجاب وحجية الحديث» لمحمد العشماوي (ص/١٢١).
(٢) انظر «الكتاب والقرآن» لمحمد شحرور (ص/٥٤٨)، و «إسلام ضد إسلام» للصادق النيهوم (ص/١٣٩).
(٣) انظر «الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية» لنصر أبو زيد (ص/٤٠ - ٤٦)، و «أصول الشريعة» لمحمد سعيد العشماوي (ص/١٢١)، و «إسلام ضد إسلام» للصادق النيهوم (ص/١٣٩)، و «السنة بين الأصول والتاريخ» لحمادي ذويب (ص/٣٤، ٥٤).
(٤) «نقد الحقيقة» لعلي حرب (ص/١٣١).
(٥) باحث وكاتب علماني مصري، كان أستاذ للفلسفة بجامعة القاهرة، ومن بُناة مؤسسة «مؤمنون بلا حدود»، توفي قريبًا سنة ٢٠١٦ م، وترجمته في نفس موقع المؤسسة السالف ذكرها.
(٦) «النبوة من علم العقائد إلى فلسفة التاريخ» لعلي مبروك (ص/٢٩٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>