للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَضربُ لنا (محمَّد شحرور) -مثلًا- على هذه الأحكامِ السُّنِّية التَّاريخيَّة البائدة: بـ «مَنعِ التَّصوير، والنَّحتِ، والرَّسمِ، والمُوسيقى، والغناءِ، ولبسِ الذَّهبِ، واستلامِ المرأة لمناصبَ في الدَّولةِ»، ويُعلِّل هذا: «بأنَّ منعَ النَّبي صلى الله عليه وسلم للرَّسم، والنَّحت، والتَّصوير، -إن صحَّ- كان مَفهومًا في حينِه، حيث إنَّ العَرَب كانوا حَدِيثي عهدٍ بالوَثنيَّة، فمنعُ ذلك كخطوةٍ وِقائيَّةٍ مُؤقَّتةٍ، حيث أنَّ هذا المنعَ لم يَرِد في الكتابِ نِهائيًّا» (١).

والعَلمانيُّون إذْ يُقرِّرون هذا الأصلِ في مَرحليَّةِ السُّنة، لم يُعدَموا قواعدَ مِن التُّراثِ الإسلاميِّ الفقهيِّ يستنِدون عليه في ذلك؛ فمِن ذلك:

أنَّهم يحتجُّون بقولِ بعض الفقهاء: أنَّ «العِبرَة بخصوصِ السَّببِ، لا بعموم اللَّفظ» (٢)، وأنَّه «لا يُنكر تغيُّر الأحكام بتغيُّرِ الزَّمانِ والمكان» (٣)!

ونقضُ مُجملِ هذا المسلكِ التَّاريخانيِّ، يَتبيَّن مِن وجوه:

أوَّلًا: أنَّ مِن مَنائِر الحقِّ في التَّصور الإسلاميِّ: توارث الحقيقةِ الشِّرعيَّةِ الواحدةِ عبر مختلفِ الأجيالِ، فليست تتَلوَّن بتَلوُّنِ الأجيال، وإنَّما كلِّ جيلٍ يصطبغُ بها اصطباغًا، ولهذا كانت قيمة الثَّبات عبر الأزمانِ قيمةً ثمينةً في الإسلام، يطلبُها، ويضَعُ لها ما يَصونها، فهي أصلٌ في اتِّساقِ عناصِرِ نِظامه، ومُطابقة معناه لمَبناه مهما عصَفَت بتصوُّراتِ النَّاس مُدلهمَّات الأفكار.

ولذا جاء في الحديثِ الشَّريفِ: «سيكون في آخرِ أمَّتِي أناسٌ يحدِّثونَكم ما لم تسمعوا أنتم، ولا آباؤكم، فإيَّاكم وإيَّاهم!» (٤)؛ يقول ابن رجَبٍ: «إشارةٌ إلى أنَّ ما استَقرَّت مَعرِفتُه عند المؤمنين، مع تقادُمِ العهدِ وتطاول الزَّمان، فهو الحقّ، وأنَّ ما أُحدِث بعد ذلك مِمَّا يُستنكَر، فلا خيرَ فيه» (٥).


(١) «الكتاب والقرآن» لمحمد شحرور (ص/٥٥٢ - ٥٥٣).
(٢) انظر «جوهر الإسلام» لمحمد العشماوي (ص/١٢٨)، وهذه قاعدة مردودة عند جمهور الأصوليين، كما ترى تحقيقه في حاشية «روضة الناظر» لابن قدامة (٢/ ٣٥).
(٣) انظر «إعلام الموقعين» (٤/ ٣٣٧).
(٤) أخرجه مسلم في مقدمة «صحيحه» (١/ ١٢)، وأحمد في «المسند» (١٤/ ٥٤٢، رقم: ٨٥٩٦).
(٥) «جامع العلوم والحكم» (٢/ ١٠١).

<<  <  ج: ص:  >  >>