للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهذا الأصل القائل بـ «تاريخيَّة» نصوصِ السُّنة والقرآن، والإتيان بمعانٍ شرعيَّة جديدةٍ لا يعرفها المُسلمون، مُناقضٌ لأصلِ الشَّريعةِ في الثَّبات، ومقصِد تنزيلِ الوحيِ على العباِد، ومُعارضٌ لمِا هو مَقطوع به عند المُسلمين مِن خَتمِ الرِّسالةِ، وإتمامِ الدِّين بمُستلزماتِ التَّشريعِ إلى قيامِ السَّاعة؛ فخطاب الله للمؤمنين بطاعةِ رسوله صلى الله عليه وسلم واتِّباعِه في سُنَّتِه أمرٌ مُطلقٌ، لم يُحَدَّ بزمانٍ ولا مكانٍ.

وربُّنا تبارك وتعالى يقول مُخاطبًا أتباعَ نبيِّه جميعَهم مِمَّن رآه ولم يَرَه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: ٥٩].

وفي تقرير هذا الأصل، يقول أبو المَعالي الجُوينيُّ (ت ٤٧٨ هـ): «لو كانت قَضايا الشَّرعِ تختلفُ باختلافِ النَّاسِ، وتناسخِ العصور: لانحَلَّ رباطُ الشَّرع، ورجَعَ الأمرُ إلى ما هو المَحذور مِن اختصاصِ كلِّ عصرٍ ودهرٍ برأيٍ، وهذا يُناقض حكمةَ الشَّريعة في حملِ الخلقِ على الدَّعوة الواحدة» (١).

ثانيًا: على خلافِ ما أرادَ العَلمانيُّون الاستنادَ إليه مِن قواعد أصوليَّة، فإنَّ المُتَّفق عليه بين جَماهيرِ الأصوليِّين (٢) أنَّ العِبرة بعموم اللَّفظ، لا بخصوصِ السَّبب، إلَّا أن تقوم الدَّلالةُ على قَصْرِ النَّصِ على السَّببِ.

دليلُ ذلك في ما قرَّره الآمديُّ:

«أنَّه لو عَرِي اللَّفظُ الواردُ عن السَّببِ كان عامًّا، وليس ذلك إلَاّ لاقتضائِه للعمومِ بلفظِه، لا لعدمِ السَّبب، فإنَّ عدم السَّببِ لا مَدخل له في الدَّلالاتِ اللَّفظيَّة؛ ودلالةُ العموم لفظيَّة، وإذا كانت دلالته على العموم مُستفادةٌ مِن لفظِه، فاللَّفظُ واردٌ مع وجودِ السَّببِ، حسبَ ورودِه مع عدمِ السَّبب، فكان مُقتضيًا


(١) «نهاية المطلب في دراية المذهب» للجويني (١٧/ ٣٦٤).
(٢) حُكي عن الإمام مالك في هذه المسألة روايتان، وذهب أكثر المالكية إلى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما عند القرافي في «شرح تنقيح الفصول» (ص/٢١٦)، وحكاه القاضي أبو يعلى عن بعض الحنابلة، واختاره المزني، والقفَّال الشَّاشي وبعض الشَّافعية، انظر «القواعد» لابن اللَّحام (ص/٣١٨)، و «الإحكام» للآمدي (٢/ ٢١٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>