للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الوجه الثَّاني: أنَّا لو سَلَّمنا لرشيدٍ حصولَ الأمنِ لَدى بعضِ الخلقِ، فلا ينفي ذلك حصولَ الخوفِ عند غيرهم، وحصولُ الانحرافِ في فَهمِ بعضِ الأدلَّة لا يكون باعِثًا لرَدِّها؛ وإلَّا لَلَزِم رَدُّ كثيرٍ مِن نصوصِ الشَّريعة، بحُجَّة أنَّها قد تكون حاملةً على الاتِّكالِ والقعودِ، ككثيرٍ مِن أحاديث القَدَر.

والفقيهُ حَقًّا، مَن بَصَّر النَّاسَ بحقيقةِ هذه الأشراطِ وحِكمتِها؛ ليَستَقِرَّ أثَرُها في القلوب؛ ومِن ثَمَّ تَنبعِثُ الجوارح تَأهُّبًا ليومِ المَعاد، لا أنْ يُتَسَلَّط على تلك الأحاديثِ بالتَّعطيل لها تعلُّقًا بكلٍّ سَببٍ (١).

الوجه الثَّالث: أنَّ مِن مَثاراتِ الغَلَطِ في هذه الدَّعوى: نَصْبَ التَّلازم بين التَّصديق بهذه الأشراط، وبين انتفاءِ ما اختصَّت به السَّاعة مِن مَجيئها بغتةً؛ والواقع أنَّ التَّلازُمَ مُنْتَفٍ، فإنَّ هذه الأشراط الَّتي صحَّت الأخبارُ بها، غايتُها أنْ تَتَميَّز بها السَّاعة قدرًا مِن التَّميِيز، وأمَّا التَّحديد التَّام، فهو مِن الغيبِ المُطلق الَّذي اختصَّ الله به.

فقال جلَّ ذكرُه: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: ٣٤].

يقول ابن جريرٍ: «ممَّا أنزلَ الله مِن القرآن على نبيِّه صلى الله عليه وسلم، ما لا يُوصَل إلى علمِ تأويلِه، إلَاّ ببيانِ الرَّسول صلى الله عليه وسلم .. وأنَّ منه مالا يَعلم تأويلَه إلَّا الله الواحد القهَّار، وذلك ما فيه مِن الخَبَر عن آجالٍ حادثة، وأوقاتٍ آتيةٍ؛ كوقتِ قيامِ السَّاعة، والنَّفخ في الصُّور، ونزولِ عيسى ابن مريم، ووقتِ طلوع الشَّمس مِن مَغربها، وما أشبه ذلك.

فإنَّ تلك أوقاتٌ لا يعلمُ أحدٌ حُدودَها، ولا يَعرف أحدٌ مِن تأويلِها إلَّا الخبرَ بأشراطِها؛ لاستئثارِ الله بعلمِ ذلك على خلقِه، وبذلك أنزل ربُّنا في مُحكمِ كتابِه .. ، وكان نبيُّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم إذا ذَكَر شيئًا مِن ذلك، لم يُدلَّ عليه إلَّا بأشراطِه، دون تحديدِ وقتِه؛ كالَّذي رُوِي عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال لأصحابِه -إذْ ذَكر الدَّجَّال-: «إنْ


(١) «دفع دعوى المُعارض العقليِّ» (ص/٤٢٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>