للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإذا أفادَ هذا عند هؤلاء صحَّةَ ما نَسبوه مِن أحكامٍ فقهيَّةٍ في باطنِ الأمر، يكون ما اتَّفَق عليه المُحدِّثون مِن أحكامٍ حديثيَّةٍ مَقطوعٌ في صِحَّتِها في الباطن أيضًا (١).

لكنْ ما يجعلُنا نَتَوقَّف في جعلِ هذا الاحتمالِ مُعتَقدًا لرشيد: كلامٌ له آخر -قد تقدَّم بعضُه- يُقرِّر فيه أنَّ الأصل فيما لم يَقع فيه الخلافُ بين العلماءِ مِن أحاديثِ «الصَّحيحين»، فلا تَردُّد عنده في قَبول سَندِه ومَتنِه، وذلك في قولِه: «أكثرُ الأحاديثِ الأُحاديَّة المُتَّفق على صِحَّتِها لذاتِها -كأكثرِ الأحاديثِ المُسندَة في صَحيحي البخاريِّ ومسلمٍ- جديرةٌ بأنْ يُجزَم بها جَزمًا لا تَردُّد فيه ولا اضطراب، وتُعَدُّ أخبارُها مُفيدةً لليقين، بالمعنى اللُّغوي الَّذي تَقدَّم؛ ولا شكَّ في أنَّ أهلَ العلمِ بهذا الشَّأن، قَلَّما يشكُّون في صحَّةِ حديثٍ منها، فكيف يُمكن لمسلمٍ يجزمُ بأنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم أخبرَ بكذا، ولا يُؤمن بصدقِه فيه؟ أليس هذا مِن قَبيل الجمع بين الكفر والإيمان؟! وليُعلَم أنَّني أعني بالمُتَّفَق عليه هنا: ما لم ينتقده أحدٌ مِن أئمَّةِ الفقهاء وغيرِهم، ومِن غير الأكثر: ما تَظهر فيه عِلَّةٌ في متنِه خَفِيَت على المُتقدِّمين، أو لم تُنقَل عنهم، وذلك نادرٌ» (٢).

فمِن آخرِ سَطرين مِن هذا النَّصِ، يَلوح لنا إشكالٌ آخر يكمُن في نظرِ رشيدٍ إلى ما اتُّفِق على صِحَّتِه مِن أحاديث «الصَّحيحين» وغيرهما، وهو المُضَمَّن في:

الظَّن الثَّاني: وهو احتمال اعتقادِ رشيدٍ أنَّ الأئمَّة المُتَقدِّمين قد تخفى عليهم عِلَّة حديثٍ اتَّفَقوا على صِحَّتِه، أو يكون أعَلَّه أحدهم حقيقةً ولم يبلُغنا تَعليلُه.

وهذا الاحتمال الثَّاني مِن (رشيدٍ) جرأة خطيرة؛ إذْ يُسَوِّغ لنفسِه خرمَ هذا اليَقين، بداعي ظهورِ عِلَّةٍ له في المتنِ خَفِيَت على كلِّ المُتقَدِّمين؟! فلقد أعاذَ الله تعالى هذه الأمَّة التي اختارَها لحملِ دينِه، وتبليغِ رسالتِه، مِن أن تكون فريسةَ غفلةٍ وغَباوةٍ، وأن تجتمعَ على ضَلالةٍ.


(١) وسيأتي مزيد مناقشةٍ لهذا المسألة الأصوليَّة في مبحثها المُناسب في المُسوِّغ الثَّاني من الباب التَّالي.
(٢) «مجلة المنار» (١٩/ ٣٤٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>