للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيُوهم الأغرارَ أنَّ أكثرَ ما في السُّنةِ مَوضوع! .. وهذا ممَّا أخطأَ فيه كثيرٌ مِن النَّاس، ومنهم أستاذُنا محمَّد رشيد رضا رحمه الله على عِلمِه وفقهِه، ولم يَستطع قطُّ أن يُقيم حُجَّته على ما يَرى، وأفلَتَت منه كلماتٌ يَسمو على علمِه أن يَقَع فيها» (١).

وبهذا فَتَح (رشيد رضا) -مِن غيرِ قصدٍ- بابًا كان مَهيبًا على أهل النَّقدِ مِن مُستَحقِّيه أن يَلِجوه، حتَّى جَعَله كَلأً مُستبَاحًا لكلِّ صغيرٍ في هذا العلمِ يلَغ في «الصَّحيحين» كـ (أحمد أمين) و (فريد وجدي)، وتَبِعهما في ذلك آخرون، اعتمَدوا جميعُهم على عَثراتٍ رشيدٍ في هذا البابِ الدَّقيق مِن العلومِ النَّقليَّة (٢).

ويا أسفي على (رشيد) حين قرأت له دفاعه على طعنِ أحدِ الأطبَّاء في حديثٍ بـ «الصَّحيح»، يقول فيهه: «ما كَلَّفَ الله مُسلمًا أن يقرأَ صحيحَ البخاريِّ، ويؤمنَ بكلِّ ما فيه وإنْ لم يَصحَّ عنده، أو اعتقدَ أنَّه يُنافي أصولَ الإسلام!» (٣).

فلقد صارت هذه الجملة فتنةً لبعض الكُتَّاب المُعاصرين أزَّتهم للاجتراء على «الصَّحيحين» براحة بال، كحالِ أحدِ الزَّائغين عن منهج المُحَدِّثين في قوله مُبتهِجًا: «الجملة الَّتي قالها رشيد رضا شُجاعة! تُرسِّخ لنا مبدأً هامًّا، مِن المُمكن أن يصدم البعضَ، وهو: أنَّنا لسنا مُلزمين بأن نتَّبع كلَّ ما كَتَبه البخاريُّ، لمجرَّد صحَّة السَّند، .. ولكنَّ علماءَ الحديث المُعاصرين كُسَالى عن التَّنقيبِ والبحثِ، ومَرعوبون مِن فكرةِ تنقيحِ أحاديثِ البخاريِّ، برغم أنَّه قد رَفَض مَن قبلَهم أئمَّةٌ ورجال دينٍ مُستنيرون، بعضَ أحاديث البخاريِّ، لتَعارُضها مع العقل» (٤).

ومع هذا كلِّه لا زلت أقول: أنَّ طريقةَ (رشيدٍ) في نقدِ المَرويَّاتِ تبقى -في نَظرِي- فريدةً في زَمَنِه، عزيزةَ السُّلوك بالنَّظرِ إلى الحالِة العلميَّة في عصرِه، إذ كان أغلبُ المُشتغلين بالشَّريعةِ أجانبَ عن حقيقةِ هذا العلم ومُعاناته، في


(١) حاشية «مسند الإمام أحمد» بتخريج الشيخ أحمد شاكر (٦/ ٥٥٥).
(٢) انظر بعض أمثلة ذلك في «منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة» لتامر متولِّي (ص/٩).
(٣) مجلَّة «المنار» (٢٩/ ٣٧)، قاله في سياق دفاعه عن طعن توفيق صدقي في حديثٍ في البخاريِّ.
(٤) «وهم الإعجاز العلمي» لـ د. خالد منتصر (ص/٤٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>