نعم؛ أنا على بالٍ بأنَّ المُحِبَّ للشَّيخ قد يَجِد في السِّياقِ ما يَتأوَّل له به عبارته أو يُقلِّل مِن هَولِها، لكنَّها -في معتقدي- لا تصلُح بحالٍ أن يُعَبَّر بمثلِها عن أخبار نبيِّنا صلى الله عليه وسلم ووِعاء سُنَّتِه.
فمثل هذه المواقف الشَّديدة مِن (الغزاليِّ) في كتابه «السُّنة النبويَّة» كثير، يُقَوِّي العزمَ عندي بأنَّ ما خطَّته يمينُه فيه إنْ هو إلَّا نَفثةُ مَصدورٍ! وما كان مُحاكمةً عِلميَّة حقيقيَّة لاختلافِ الأدلَّةِ (١)؛ وهو الَّذي أقرَّ بأنَّ مِثلَ تلك الأحكام الجُزافِ والألفاظ القاسية تُجاه الصِّحاحِ، والنَّأيَ عن كلامِ الأئمَّةِ في فهمِها على وجهها، مُفضٍ إلى إهدارِ السُّنة في المآلِ، فكان مِن جَميلِ مَقالِه في ذلك قوله:
«إنَّ الوَلَع بالتَّكذيبِ لا إنصافَ فيه ولا رُشد، إنَّ اتِّهامَ حديثٍ ما بالبُطلان، مع وجود سَندٍ صحيحٍ له، لا يجوز أن يَدور مع الهَوى، بل ينبغي أن يخضَعَ لقواعد فَنيَّةٍ مُحتَرمةٍ، هذا ما التَزَمه الأئمَّة الأوَّلون، وهذا ما نَرى نحن ضرورةَ التزامِه.
لكنَّ المؤسِفَ أنَّ بعض القاصِرين ممَّا لا سهمَ له في معرفةِ الإسلام، أخَذَ يهجُم على السُّنةِ بحمقٍ، ويَردُّها جملةً وتفصيلًا، وقد يُسرِع إلى تكذيبِ حديثٍ يُقال له، لا لشيءٍ إلَاّ لأنَّه لم يَرُقه أو لم يَفهمه!».
ثمَّ مَثَّل (الغزاليُّ) لهذا التَّأصيلِ بحديثِ الحبَّةِ السَّوداءِ، حيث شنَّع على مَن هَرَف «بأنَّ الواقعَ يُكذِّبُه، وإنْ صَحَّحه البخاريُّ!»، قائلًا عنه: « .. ويَظهرُ أنَّه فهِمَ مِن كلِّ داءٍ سائرَ العِلَلِ الَّتي يُصاب بها النَّاس، وهذا فهم باطلٌ! والواقع أنَّ (كلَّ داءٍ) لا تعني إلَاّ أمراضَ البردٍ، فهي مثل قول القرآن الكريم:{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}[الأحقاف: ٢٥].
بَيْدَ أنَّ الطَّعنَ هكذا خبطَ عشواء في الأسانيدِ والمتون -كما يصنعُ البعضُ- ليس القصدُ منه إهدارَ حديثٍ بعينِه، بل إهدارَ السُّنةِ كلِّها! ووَضْعَ الأحكامِ الَّتي جاءت عن طريقِها في مَحلِّ الرِّيبةِ والازدراءِ، وهذا -فوق أنَّه غَمطٌ للحقيقةِ
(١) انظر «طليعة سَمط الآلي» لأبي إسحاق الحويني (ص/٢١).