للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المُستَحْدَثَةِ ما لم يخطُر على بالِ الأقدمين، وعَرَضوها على النَّاسِ بأسْلوبٍ عَصْريٍّ حَديثٍ، بلغةٍ قَريبةٍ مِن أفهامِهم، «فربَّما كان المُتأخِّرُ بهذا أضْرَى بالشَّرِ مِن المُتقَدِّم! لتَمَكُّن داعيةِ الشَّر مِن نفسِه بالوَراثة والقُدوةِ جميعًا» (١).

ولأجل أنَّ كلَّ عصرٍ له طائفةٌ مِن أهلِه يُنافحون فيه عن الحقِّ، ويَذودون عنه ما استحدثَه أقوامُهم مِن أباطيل، مِصداق قولِ مَولايَ صلى الله عليه وسلم: «يحمِلُ هذا العِلمَ مِن كلِّ خَلَفٍ عُدولُه، يَنفونَ عنه تحريفَ الغالِين، وانتحالَ المُبطِلين، وتأويلَ الجاهِلين» (٢) أحببتُ أنْ أُحشَر في زُمرة عدولِ هذا الخَلَف الَّذي أنا فيه.

هذا؛ ولم يكُن لي أن أسوق تلك المُعارضاتِ للمُعاصِرين على «الصَّحيحين» على وجهِ الاستيعابِ، فهذا أمرٌ شاقٌ جدًّا بعيد المَنال لكثرتها، وكثيرٌ من هذه الكثرةِ يَستكثِرُ العاقلُ مُجرَّدَ النَّظَرِ إلى آحادِها، لسَخافةِ من انطوت عليه من جهالاتٍ.

وفي الإشارةِ إلى هذه المَنهجيَّة النَّافعةِ في الجَدليَّات، يقول ابن تيميَّة: « .. لو قال قائلٌ: هذه الأمورُ المَعلومة لا تَثبُت إلَّا بالجوابِ عمَّا يُعارِضها مِن الحُجَج السُّوفسطائيَّة (٣)، لم يَثبُت لأحدٍ علمٌ بشيءٍ مِن الأشياء! إذْ لا نهايةَ لمِا يقوم بنفوسِ بعضِ النَّاس مِن الحُجَج السُّوفسطائيَّة» (٤).

فليس -إذن- مِن وُكدِي تَتبُّع جميعِ ما فَرَّخَتْهُ عقولُ هؤلاءِ المُعترِضين على السُّنَنِ، بل يكفينا بيانُ تساقُطِ أصولِهم الكُليَّة الَّتي تَفرَّعت عنها تلك المُعارَضات، ثمَّ التَّوجُّه إلى دفعِ أصولِ الاعتراضاتِ الجزئيَّة وأشهرِها وأكثرِها حُضورًا في


(١) رشيد رضا في «تفسير المنار» (٤/ ٢١٦) بتصرف يسير.
(٢) أخرجه ابن وضَّاح في «البدع» (ص/٢٦)، والبزَّار في «المسند» (١٦/ ٢٧٤، رقم: ٩٤٢٣)، والطَّحاوي في «شرح مشكل الآثار» (١٠/ ١٧) وغيرهم، وصحَّحه أحمد بن حنبل فيما نقله عنه الخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (ص/٢٩)، وقَوَّاه ابن القيِّم في «مفتاح دار السعادة» (١/ ١٦٣)، وحَسَّنه العَلائي في «إثارة الفوائد» (١/ ٧٢).
(٣) السُّوفسطائيَّة: يُطلق على فرقة ينكرون الحسِّيَّات والبديهيَّات ونحوها مِن حقائق الأشياء، وذلك بالقياس المركَّب من الوهميَّات، انظر «كشاف اصطلاحات الفنون» للتهانوي (١/ ٩٥٧).
(٤) «درء تعارض العقل والنقل» (٥/ ٢٥٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>