للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فبانَ بهذا أنَّ المُرادَ مِمَّا قد يُذكر مِن كونِ التَّقطيع للمتونِ لا يخلو مِن كراهةٍ، ليس معناه الكراهةَ الاصطلاحيَّةَ، وإنمَّا المُراد أنَّ سَوْقَه تامًّا أحسنُ وأَوْلى (١)، يقول ابن الأثير (ت ٦٠٦ هـ): «والأولويَّةُ درجةٌ وراءَ الجواز، وما قَصَد مَن مَنَع الاستعمالَ إلَّا الأحوَطَ والأتقى، والتَّحَرُّزَ عن التَّسامحِ والتَّساهلِ في لفظِ الحديثِ» (٢).

الفرع الثَّالث: مَذهب البخاريِّ في اختصارِ المتون وروايتِها بالمعنى.

ما تَقدَّم تقريرُه مِن تجويز عامَّةِ المُحدِّثين لتقطيعِ الحديثِ واختصارِه بشروطِه، هو مَذهب البخاريِّ تَبَعًا؛ كما أنَّ عامَّةَ المتأخِّرين الَّذين اعتنوا بـ «الجامعِ الصَّحيحِ» للبخاريِّ مُتوافقون على أنَّ مذهب البخاريِّ تجويزِ اختصارِ المتون وإن لم يُصرِّح بذلك، نظرًا لصنيعِه في كتابِه ومُقارنةِ ما يرويه بغيره.

وقد شُهِرَ عنه تقطيعُ المتونِ وتَفريقُها في الأبواب، فيَروي -مثلًا- بإسنادِه تحتَ بعضِ التَّراجِم قطعةً مِن الحديث، ويذكر المتنَ في مَوضعٍ بتمامِه، ثمَّ يذكره باختصارٍ مُقتطَعًا منه في مَواضع أخرى بنفسِ الإسناد (٣).

وهو في هذا التَّقطيعِ أو الاختصارِ، مُلتزمٌ بالشُّروطِ الَّتي أشرنا إليها قريبًا، فليس يَعمَدُ إلَّا إلى ما لا تَعلُّق له بالمقتصَر عليه تَعلقًّا يُفضي إلى اختلالِ المعنى كُليًّا أو جُزئيًّا (٤).

يشرح ابن حجرٍ (ت ٨٥٢ هـ) السَّببَ في ذلك فيقول: «إنَّ البخاريَّ استنبَطَ فِقهَ كتابِه مِن أحاديثه، فاحتاجَ أن يُقطِّع المتنَ الواحدَ إذا اشتملَ على عِدَّة


(١) «النكت الوفية» للبقاعي (٤/ ٦٤).
(٢) «جامع الأصول» لابن الأثير (١/ ١٠٢).
(٣) انظر أمثلة لذلك في «الجمع بين الصحيحين» للحميدي (١/ ٨٩)، وكذا «إكمال المعلم» للقاضي عياض (١/ ٩٤)، و «مقدمة ابن الصلاح» (ص/٢١٧)، و «فتح الباري» لابن حجر (١/ ٨٤) و (١/ ٢٨٦).
(٤) «فتح الباري» (١/ ٨٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>