للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وليست بِضعةُ أيَّامٍ ولا حتَّى بضعُ أسابع، بالظَّرفِ الَّذي يُنسِيه ما سَمِعه البخاريُّ، وهو إمامُ زمانِه في الحفظِ؛ مع ما كان عليه مِن عادةٍ أنَّه لا يَكتُب الشَّيء حتَّى يكونَ انتهَى مِن تَحَفُّظِه! فقد قال: «ما كَتَبتُ حكايةً قطُّ كنتُ أتحفَّظُها» (١)؛ فالحديثُ الَّذي سَمِعَه في البَصرة، لم يَكتُبه في الشَّام حتَّى يكون قد انتهى مِن تَحفُّظه فيما بينهما.

وأمَّا سكوتُه عن جوابِ مَن سَأله عن كتابةِ ذلك بكَمالِه: فهو منه نوعُ تورُّعٍ عن الجزمِ، لتَطرُّقِ الاحتمالِ إلى ما سَمِعه أن يكون تصَرَّفَ في لفظِ بعضِه بما يُوافِق المعنى الَّذي سَمِعه.

فلو أجابَ السَّائلَ بـ (نعم)، لم يَكُن بذلك مُوافقًا لِما في نفسِه مِن احتمالِ ضِدِّه! ولو أجاب بـ (لا)، فلَعلَّ قَلِيلي الفَهمِ -كبعضِ أهلِ زمانِنا- أن يُزْروا عليه ذلك، ويَنتَقِصوا مِن ضَبطِه للمتونِ! فاستحبَّ السُّكوت.

وأمَّا ما نَقَله المُعترِض مِن قولِ ابن حَجَرٍ في حديثٍ أخرجَه البخاريُّ: «هذا مِن نوادر ما وَقع في البخاريِّ، أنْ يُخرِج الحديثَ تامَّا بإسنادٍ واحدٍ بلفظين»:

فقد أجابَ محمَّد أبو شَهبة (ت ١٤٠٣ هـ) عن هذا بقولِه: «هو أبعدُ ما يكون عن الرِّوايةِ بالمعنى، ولم يَسُقه الحافظُ لهذا، وإنَّما ساقَه في مَعرضِ الكلامِ عن حديثِ سحرِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأنَّ البخاريَّ رواه مرَّةً عن شيخِه إبراهيم بن موسى بلفظ: «حتَّى إذا كان ذاتَ يومٍ أو ذاتَ ليلةٍ» بالشَّك، وفي موضعٍ آخرَ عن هذا الشَّيخ نفسِه بلفظ: «حتَّى إذا كان ذات يوم» مِن غير شكٍّ، وقد ظنَّ الحافظ أوَّلًا أنَّ الشَّك مِن البخاريِّ، ثمَّ ظَهَر له أنَّ الشَّك مِن شيخِ شيخِه عيسى بن يونس .. » (٢)، وراح أبو شهبة يُدلِّل على ذلك.

وحاصل القول في هذا الباب:

أنَّ هذه التَّصرُّفات مِن البخاريِّ في الاختصارِ والتَّقطيعِ والرِّواية بالمعنى لم يُخالف فيها مذهبَ جماهير المُحدِّثين، وقد تحرَّى الإتقانِ فيما يُبتُّه من متونٍ في


(١) «سير أعلام النبلاء» (١٢/ ٤١٢).
(٢) «دفاع عن السُّنة وردُّ شبه المستشرقين» (ص/٢٣٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>