للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحديثِ المرجوحِ، لقوَّة الموانِع من القولِ بصحَّتِه، فيحكم للرَّاجح بالقطعيَّة إذا ساعدته القرائن على ذلك؛ أو يعترفَ بأنَّ المرجوحَ لا يزال دليلًا قابلًا لِأن يكون صحيحًا، غايته أنَّه وُجد لمُقابله ما يقتضي الظَّن بأرجحيَّته، فيبقيان في حيِّز الظَّنيَّاتِ (١).

أمَّا إنْ عجزَ عن القدحِ في أيٍّ منهما بعينه، فأوْلى أن يَبْقيَا على حالهما من الظَّنيَّة.

وحيث أنَّ التَّرجيح فرعٌ عن الإقرارِ بالتَّعارض، فإنَّ الحديثين القطعيَّين لا يُتأتَّى التَّرجيح بينهما إلَّا مِن جهة النَّسخ، خاصَّةً فيما كان مِن القطعيَّاتِ قريبًا سبَبُه، واضحًا مأخذُه، لا يحتاج إلى دقيقِ نَظرٍ واستقراءٍ؛ فهذا النَّوع لا يبقى معه مَسلكٌ للتَّرجيح مِن الأساسِ، ولا يَسوغ فيه التَّعارض، إلَّا كما يسوغ التَّعارض الظَّاهريُّ بين الآياتِ الكريمةِ أو الأخبار المتواترةِ، كونها ضروريَّةً يهجم تصديقُها على النَّفس (٢).

أمَّا ما كان منها مبنيًّا على نظرِ المُستدلِّ في القرائنِ واستقراءِ الشَّواهد - كما هو الحاصل في «الصَّحيحين» - فيقعُ أن ينظر المستدلُّ في حَديثين قد احتفَّ بِهما من الشَّواهدِ ما يوحي بقوَّة الخَبرين بادئَ الأمر، حتَّى يلوحَ له التَّعارض بين مَفهوميهِما، ويعجزَ عن التَّوفيق بينهما، فيكون واقع الأمرِ أنَّ أحدهما ليسَ قطعيًّا، أو لا تعارضَ بين مدلوليهما إلَّا في ذهنِ النَّاظر (٣)، بحيث يمكن الجمعُ بين الحدِيثَين جمعًا مَقبولًا للنَّفس، فلا داعي للتَّرجيح حينئذٍ؛ بعكس ما لو كان الجمعُ مُتكَلَّفًا بعيدَ المأخذِ (٤)، فالأشبهُ عندئذٍ تقديمُ رُتبةِ التَّرجيح على الجمع (٥).


(١) انظر تأصيلًا قريبًا من هذا في حاشية د. الدراز على «الموافقات» للشاطبي (٥/ ٣٤٩ - ٣٥٠).
(٢) انظر «القطعية في الأدلة الأربعة» (ص/٢٥٢ - ٢٥٣).
(٣) انظر «درء تعارض العقل والنقل» لابن تيمية (١/ ٧٩)، والمعنى نفسه تجده في «البحر المحيط» للزركشي (٨/ ١٦٧).
(٤) انظر تقرير هذا المعنى في «البحر المحيط» (٨/ ١٥٢).
(٥) كالحاصل من جماعة من المحدِّثين حين ذهبوا إلى تصحيحِ الرِّواياتِ الَّتي فيها أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم صلَّى ستَّ وثمانِ ركعات في ركعتي الكسوف، فضلًا عن المعروف من صلاته لركوعين في ركعة، لورود ذلك عندهم في صحيح مسلم، حيث حملوا هذا الاختلاف في العدد على أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم فعلَها مرَّاتٍ! مع أنَّ الثَّابتُ مِن فعلهِ صلى الله عليه وسلم صلاتُه الكسوفَ مرَّةً واحدةً في عمره يوم مات ابنه إبراهيم رضي الله عنه، ولذلك ضعَّف البخاريُّ والشَّافعي وأحمدُ غير رواية الرُّكوعين في ركعة، لمخالفتِها لروايةِ الجماعةِ من الثِّقاتِ، انظر «الجواب الصحيح» لابن تيمية (٢/ ٤٤٦ - ٤٤٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>