للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سكوتُ الباقين عن هذا الحكم، مع طولِ الزَّمنِ، دون إبداءِ مُخالفةٍ له، فإنَّه -والحالة هذه- مِن الصُّوَر الَّتي تُفيد العِلم عند جمهورِ الأصوليِّين (١).

وقد أشار ابن السَّمعاني (ت ٤٨٩ هـ) إلى هذه الدَّقيقة بقوله:

«إنَّ التَّمادي على ذلك الزَّمان الطَّويل، ثمَّ لا يظهر من ذلك القول أحد ينكره، لأنَّه بدونِ هذا يجوز أن يسكتوا عن الإنكار عليه لغرضٍ، ويجوز أن يكون لهيبةٍ له، أو لوجلٍ منه، فأمَّا إذا مرَّ على ذلك الزَّمان الطَّويل فلا يُتصوَّر السُّكوت عن الإنكارِ من كلِّ القومِ، مع اختلافِ الطِّباع، وتباينِ الهِمم، وكثرةِ الدَّواعي من كلِّ وجهٍ، ومنها خبرُ الواحد الَّذي تلقَّته الأمَّة بالقَبول وعملوا به لأجله، فيُقطع بصدقِه، وسواءٌ في ذلك عَمل الكلُّ به، أو عمل البعضُ وتأوَّله البعض» (٢).

هذا الَّذي يؤصلِّه السمعانيُّ لمسألة تلقِّي الأخبار بالقبول، ألْزقُ ما يكون بتقرير الأصوليِّين في باب الإجماع حين قالوا: أنَّ حُكمَ أهلِ العلمِ إذا تَكرَّر على ما عَمَّت به البَلوى واشتُهِر أمرُه، وتَكرَّرَ سكوتُ الباقين عن هذا الحكم، مع طولِ الزَّمنِ، دون إبداءِ مُخالفةٍ له، فإنَّه مِن الصُّوَر الَّتي تُفيد العِلم عند جمهورِ الأصوليِّين (٣).

وقول مَن قال بجواز كِتمان مَن حمَّله الله أمانة دينِه لحُكمٍ حَديثيٍّ أو إغفاله مِمَّا يَترتَّب عليه إيمان وعملٌ، يجري قولُه هذا في القُبح مَجرى إخبارِ العلماء عن أمرٍ خلاف ما هو عليه! والله تعالى قد رَكَّز في طِباعِ الخلقِ مِن توفيرِ الدَّواعي على نقلِ ما علِموه، والتَّحدُّث بما عرفوه، حتَّى أنَّ العادةَ لتُحيل كتمانَ ما لا يُؤبه له مِمَّا جَرى مِن صِغار الأمورِ على الجمعِ القليل (٤)، فكيف على الجمعِ الكثير


(١) انظر «التقرير والتحبير» لابن الموقِّت الحنفي (٣/ ١٠٥ - ١٠٦)، و «النكت على ابن الصلاح» للزركشي (١/ ٢٨٠ - ٢٨١)، و «فتح المغيث» للسخاوي (١/ ٧٢).
(٢) «قواطع الأدلة في الأصول» (١/ ٣٣٣).
(٣) انظر «التقرير والتحبير» لابن الموقِّت الحنفي (٣/ ١٠٥ - ١٠٦)، و «النكت على ابن الصلاح» للزركشي (١/ ٢٨٠ - ٢٨١)، و «فتح المغيث» للسخاوي (١/ ٧٢).
(٤) «قوادح الاستدلال بالإجماع» لسعد الشثري (ص/٣٣١).

<<  <  ج: ص:  >  >>