للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وما ذكره ابن الملقِّن من احتمالِ إرادة ابن الصَّلاح كلَّ الأمَّة، أي مُنذ عهد الصِّديق رضي الله عنه إلى ساعة كتابتِه لعبارتِه في مُبيضَّة كتابِه كما يُفهم هذا مِن كلامه لزامًا: ففَرْضٌ مُستبعدٌ أن يخطر ببالِ مُحدِّثٍ مُدقِّقٍ كابن الصَّلاح؛ فأيُّ دخلٍ لأمَّةٍ قد خَلت في مُصنَّفين حادِثين في القرن الثَّالث؟! اللَّهم إلَّا إن كان المقصود بالكُليَّةِ في عبارة ابن الصَّلاح الكُليَّةَ النِسبيَّة، أي الأمَّةَ الَّذين عايشوا زمنَ هذه الدَّعوى ومَن بعدهم، لا مَن قبلهم (١).

والَّذي يُعلم مِن حالِ ابن الصَّلاح براءتُه من هذا القصدِ، وأنَّ مَرامَه ممَّا سطَّره في هذه المسألة بعضُ الأمَّة لا كلُّها، والَّذين هم تحديدًا مِن بعدِ تأليفِ «الصَّحيحين»، بقَرينةِ إخراجِه مِن حكاية الاتِّفاقِ على صحَّة أحاديث «الصَّحيحين» الأئمَّةَ الَّذين ضَعَّفوا منها شيئًا مِمَّن جاؤوا قبل الشَّيخينِ، فلم يُمثِّل بأحدٍ منهم، بل مثَّل بمَن كان زمَنهم أو بعدهم، كالدَّارقطني، وأبي مسعودٍ الدِّمشقي، وابن مَنده، وأبي بكر الإسماعيليِّ، والغسَّاني، وغيرهم مِن جهابذة المُحدَّثين، وهؤلاء في الطَّبقاتِ الأولى الَّتي تلي الشَّيخين بخاصَّة (٢).

وهؤلاء قد مضى الأمرُ عندهم في تلكُم الطَّبقاتِ المتلاحقة على تبجيل الكِتابين، والتَّسليم لهما بِأصحِّيةِ ما فيهما إلَّا ما نبَّهوا على علَّة فيه، إلى أن استقرَّ الحالُ عند أهل الدَّرايةِ بالحديثِ - كابن الصَّلاح ومَن جاء بعده - على أنَّ عامَّةَ ما فيهما قد تَلقَّتهما العلماء بالقَبول، وأنَّه مَذهب أهلِ الحديث؛ وأهل الفنِّ إذا اجتمعوا على أمرٍ يخصُّهم، فهم بلا ريبٍ حُجَّة عند اتِّفاقهم، ولا يضرُّهم سبقُ الخلافِ مِن بعض المتقدِّمين قبلَهم على ما اتَّفقوا هُم على صحَّتِه (٣)، إذْ الصَّحيح من جهة الأصول أنَّ الإجماعَ قبل استقرارِ الخلافِ، يُزيل حكمَ الخلافِ (٤).


(١) «روضة الناظر» لابن قدامة (١/ ٤٢٩).
(٢) انظر «توضيح الأفكار» للصنعاني (١/ ١١٩).
(٣) انظر «توجيه النظر» (ص/٣٢١).
(٤) انظر «فصول البدائع» لشمس الدين الرومي (٢/ ٣٠٧) و «البحر المحيط» للزركشي (٦/ ٥٠٤ - ٥٠٦)، ونقل أبو الخطاب في «التمهيد» (٣/ ٢٩٧) أنه قول الجمهور من الأصوليين.

<<  <  ج: ص:  >  >>