للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: إن كان هؤلاءِ الَّذين وصَمَهم الصَّنعانيُّ بالاجتهادِ ليسوا مِن أهلِ التَّخصُّص الحديثيِّ، فلا دخل لانتسابهم للأمَّة في ما لا علم لهم به، فإنَّ العلماء «متَّفقون على الرُّجوعِ في كلِّ فنٍّ إلى أهلِه» (١).

ولا ريب أنَّ عامَّةَ الفِرق المُجافية لمنهج أهل السُّنة والجماعة على جهلٍ مُدقعٍ بالصِّناعة الحديثيَّة ومَعرفةِ السُّنَن، إلَّا من سَلَك مسلَك أهل الحديثِ في منهج النَّقد، فهؤلاء بمثابةِ «مَن عرفَ مِن العِلم ما لا أثرَ له في معرفةِ الحُكم، كأهلِ الكلام، واللُّغةِ، والنَّحو، ودقائقِ الحساب؛ فهو كالعاميِّ لا يُعتَدُّ بخلافِه، فإنَّ كلَّ أحدٍ عاميٌّ بالنِّسبةِ إلى ما لم يُحصِّلْ علمَه، وإن حصَّلَ عِلمًا سِواه» (٢).

فكان الفَرضُ إذن في ما نحن بصَدَدِه أن يُسلِّم العاميُّ -من أيِّ طائفةٍ كان، ولو كان فقيهًا بالحلالِ والحرام- أن يُسلِّم بقواعدِ نَقد الحديثِ للعالمِ بها (٣).


(١) «فتح المغيث» للسَّخاوي (ص/٦٨).
(٢) «أصول السرخسي» (١/ ٣١٢) بتصرف يسير، وانظر «شرح تنقيح الفصول» للقرافي (٢/ ١٨٠).
(٣) حين لم تنضبط هذه المسألة في ذهن الصنعاني، امتدح قول ابن تيمية: «ولهذا كان أكثر متون الصَّحيحين مما يُعلم علماء الحديث علما قطعيًّا أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قاله»، ظنًّا أن كلام ابن تيميَّة هذا خلاف ما ادَّعاه ابن الصلاح من إجماع من الأمَّة، بينما حصره ابن تيميَّة في نظر الصَّنعانيِّ في علماء الحديث فقط! كما تراه له في «توضيح الأفكار» (١/ ١١٦ - ١١٧).
لكن فاتَ الصَّنعانيَّ نصوصٌ أخرى لابن تيمية، يؤكِّد فيها بأن الأمَّة تَبع لأهل الحديث هؤلاء في تصديقهم، وأنه موافق لكلام ابن الصلاح كما سيأتي.
وقد تفرَّع عن هذا الاعتقادِ الخاطئ نفسِه، غلطُ ما قرَّره رشيد رضا -ومن قبله شيخه محمَّد عبده- أنَّ الحديث الصَّحيح يكون حجَّة عند مَن أيقن أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله، أمَّا مَن لم يَقع عنده العلم بذلك، فهذا لا يَلزمه الإيمان بما جاء به ذلك الخبر، فضلًا عن أن يلزمه العمل بما دلَّ عليه، كما تراه في «مجلة المنار» (١/ ١١٦) (٢/ ٥٤٥) (٧/ ٣٨٨).
والشَّيخ رشيد بهذا قد وسَّع محجورًا، بفسحِه الكلام في الحديث للعامَّة، وليس كل مسلم يقعد عن الإيمان بدلالة الحديث، لمجرَّد شُبهةٍ لاحت له، كأن يظن عدم ثبوته، ولو جُعلت السُّنة عرضةً لآراء العامَّة، لمَا بقي لها أساس تقوم به، ولا فرع تمتدُّ إليه؛ وانظر «موقف المدرسة العقلية الحديثة من الحديث النبوي» لعبد الله شقير (ص/٢٦٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>