للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قائلها، وإلَّا فإنَّ علوم الحديثِ لم توضع إلَّا للفصلِ بين المَقبول والمَردودِ من الأخبارِ مِن جِهة التَّصديق أساسًا، فلا يُعدل عن هذا الأصل إلَاّ بدليل راجح.

وبهذا يتبيَّن أنَّ جوابَ النَّووي على ابن الصَّلاح بأنَّه «لا يلزم مِن إجماعِ الأمَّةِ على العملِ بما فيهما، إجماعُهم على أنَّه مَقطوعٌ بأنَّه كلام النَّبي صلى الله عليه وسلم» (١): خارجٌ عن محلِّ النِّزاع والبحث، إذْ لم يجرِ ذكرُ العملِ في كلامِ ابن الصَّلاح أصلًا؛ فضلًا عن أن يكون في كلامِه نفحةُ اعتزالٍ كما زَعَم العِزُّ بن عبد السَّلام (٢)؛ ولكنْ اتِّفاقُ العلماء على صحَّةِ ما في «الصَّحيحين» هو ما أفادَ العلمَ بما فيهما، لا الاتِّفاقَ على العمل كما تصوَّرَ النَّووي.

ومِن ثمَّ جَرى تَعقبُّ ابن حَجرٍ عليه مِن جهة نفيِ هذا التَّصوُّر، وإثباتِ أنَّ المتمثِّل في اتِّفاقهم على الصِّحة هو الأجدر بالتَّصوُّر، إذ هو الأصل في كلامِهم كما قرَّرناه (٣)، فكان أن دعا مَن يقول بغير هذا إلى الاعترافِ بوجودِ مَزيَّةٍ للاتِّفاق على ما صَحَّ سنَدُه زائدةٍ على مَزيَّة العملِ لِما تُلقِّي وهو ضعيف السَّنَد (٤) (٥).

قال: « .. أمَّا متى قلنا يوجب العمل فقط: لزمَ تساوي الضَّعيف والصَّحيح، فلا بدَّ للصَّحيح من مزيَّة» (٦).


(١) «شرح النووي على صحيح مسلم» (١/ ٢٠).
(٢) لأنَّه توهَّم أنَّ قولَ ابن الصَّلاح، يُشبه قولِ بعض المعتزلة الَّذين يَرون أنَّ الأمَّة إذا عمِلت بحديث اقتضى ذلك القطع بصحَّته.
(٣) وقد نقلَ ما يؤيِّد هذا التَّقرير عن بعض علماءِ الأصولِ أنفسِهم، كالجُويني، وابن فورك، وعبد الوهَّاب المالكي، والبُلقيني، في آخرين من علماء المذاهب، انظر «النكت على مقدمة ابن الصلاح» (١/ ١٣٨).
(٤) باعتبار أنَّ الحديث الضعيف في سنَدِه، إذا تلقته الأمة بالقبول، فإنه يوجب العمل بمدلولِه، لا القول بتصحيحه، على قول الحافظِ وغيره من بعض أهل العلم، أما على قول من يُرقِّيه بهذا القبول إلى درجة الصِّحة، فلا إشكال معه أصلًا فيما يريد ابن حجر الإلزام به، وانظر أقوال العلماء في مسألة تلقي الضعيف بالقبول في «أثر علل الحديث في اختلاف الفقهاء» لـ د. ماهر الفحل (ص/٣٨).
(٥) «نزهة النظر» (ص/٥٣).
(٦) «النكت على مقدمة ابن الصلاح» (١/ ٣٧٢).
ودعوى النَّووي أنَّ الاتِّفاق محصورٌ على العمل بما فيهما قد تعقَّبه فيها العسقلانيُّ (١/ ٣٧١) بكونِهما قد حوَيا أحاديث تُرك العمل بما دلَّت عليه، لوجود معارضٍ من ناسخٍ أو مخصِّصٍ، إلَّا أنَّه لم يُصب في اعتراضِه هذا عليه، لأنَّ قول النَّووي: «أجمعت على العمل» إنَّما مراده: ممَّا تُعبِّدنا بالعمل به، فالمنسوخ والمخصَّص قد خرجا من ذلك كما أوضحه الصَّنعاني في «توضيح الأفكار» (١/ ١١٨).
وقد غلِط حافظ ثناء الزَّاهدي حين تابعَ ابن حجرٍ في هذا، في بحثه «أحاديث الصَّحيحين بين الظن واليقين» من «مجلة البحوث الإسلامية» (١٨/ ٣١٦)، وفيه هذا مِن التَّعقُباتِ ما لا يلزم النَّووي.

<<  <  ج: ص:  >  >>