للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الوجه الثَّالث: أنَّا قدَّمنا آنفًا في الردِّ على الصَّنعانيِّ أنَّ ما يجبُ على الأمَّةِ قَبوله شرعًا لا يكون باطلًا في نفسِ الأمر، بل كلُّ دليلٍ يجب اتِّباعُه شرعًا، لا يكون إلَّا حقًّا، ويكون مَدلوله ثابتًا في نفسِ الأمر، فإنَّ الله تعالى لم يأمرنا باتِّباع ما ليس بحقٍّ (١)؛ هذا ابتداءً.

ثمَّ كيف لِمَن قال بمثل قولِ النَّووي أن يوجب على المُسلمِ اعتقادَ مضمونَ حديثٍ عَقديٍّ ما في «الصَّحيحين»، ثمَّ يَأمُره في الوقتِ نفسِه بأن يعتقد احتمال غلطِ الرَّواية فيه؟! كيف يقبل مسلمٌ أن يُقال له: إنَّ الإيمانَ والعملَ بهذه الأحاديث الَّتي أخرجها الشَّيخان واجبٌ شرعًا للإجماعِ، ولكنَّ العلمَ بها ظنيٌّ محتمل للكذب لا تثبت به أصول العقائد؟!

أليسَ هذا عينُ التَّناقضِ الَّذي استهجنه أحمد بن حنبل؟! (٢)

بل استهجَنه (رشيد رِضا) نفسُه! وهو يقرِّر «أنَّ أكثرَ الأحاديث الآحاديَّة المتَّفَق على صِحَّتها لذاتِها -كأكثرِ الأحاديث المُسندةِ في صَحِيحي البخاريِّ ومسلم- جديرةٌ بأن يجُزَم بها جزمًا لا تَردُّد فيه ولا اضطراب، .. ولا شكَّ في أنَّ أهل العلمِ بهذا الشَّأن، قلَّما يَشكُّون في صحَّةِ حديثٍ منها، فكيف يُمكن لمسلمٍ يجزمُ بأنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم أخبرَ بكذا، ولا يؤمن بصدقِه فيه؟! أليسَ هذا من قبيل الجمع بين الكفر والإيمان؟!» (٣).


(١) «المسودة في أصول الفقه» لآل تيمية (ص/٢٤٥).
(٢) كما في «العدة في أصول الفقه» لأبي يعلى الفراء (٣/ ٨٩٩).
(٣) «مجلة المنار» (١٩/ ٣٤٢).
مع التنبيه: بأنَّ رأي رشيد رضا قد اضطرب في تحديد معنى الظَّن الَّذي تفيده أخبار الآحاد الصَّحيحة، اضطرابًا يصل حدَّ التَّناقض أحيانًا، فبينا نجده يقرر أن الظَّن مرادف للعلمِ في معناه اللًّغوي، وأنَّه حجَّة في الإيمان الشَّرعي، بل يردُّ قول من خالف ذلك، نجده في مواطن أخرى يقرِّر أنَّها لا يُؤخذ بها في باب الاعتقاد، مستشهدًا بالآيات الواردة في ذمِّ الظنِّ، حتَّى تجد هذا الاختلاف في الموضع الواحد من مقالاتِه! وانظر «آراء رشيد رضا في قضايا السُّنة» لرمضاني (ص/١٦٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>