للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيقول: «سرُّ المسألة: هل تجويز الخطأ في ظنِّ المعصوم يناقض العصمة؟

والحقُّ أنَّه لا يناقضها، حيث يكون خطأه فيما طلب لا فيما وجب، ولا يوصف خطأه حينئذٍ بقُبح، كتحرِّي القِبلة، ووقتِ الفِطر، والصَّلاةِ، وعدالة الشَّاهد .. وأحاديثِ سهوِ النَّبي صلى الله عليه وسلم في الصَّلاة .. »، فـ «العصمة إنَّما هي عن مُخالفةِ المَعصوم فيما أوجَبَه الله عليه، لا عن مخالفتِه ما طَلبه»؛ ومثَّل لكلامِه بوجوبِ حكم الرُّسل بين الخصمين بالبيِّنة، فهذا قد عُصموا عن مخالفتِه، فلا يَحكمون إلَّا حُكمًا جامعًا لشرائطِ الصِّحة، وأمَّا المطلوب لهم وهو موافقة الحقِّ في نفس الأمر، فهذا لم يُعصموا عن مخالفتِه (١).

فأمَّا الجواب عن المُستندِ العقليِّ لهذا الاعتراض، فمِن وجهين:

أمَّا الوجه الأوَّل: فمَنشأ الجزم بصدقِ الحديثِ بعد اتِّفاقِ المُحدِّثين على صِحَّته وتَلقِّي الأمَّة له بالقَبول، راجعٌ إلى اعتقادنا أنَّ الخبر لو كان في نفس الأمرِ كذبًا، لكانت الأمَّة قد اتَّفَقت على تصديقِ الكذبِ والعملِ به، وهذا ممَّا لا يجوز عليها، لسَبْقِ القضاءِ الكونيِّ بِحفظِ الله لهذه الأُمَّة مِن نُفوقِ الخطأِ عليها، ومُستندهم في هذا أصلِ «الحفظ الإلهي» لأدلَّةِ الوحيِ.

هذا الأصلُ مُستقرَأ من مجموعِ أدلَّةِ حفظِ الشَّريعةِ، نظيرُ جزم الفقهاءِ بصحَّة حكمٍ شَرعيٍّ قد أجمعوا عليه، بجامعِ أنَّ الفقهاء والمُحدِّثين إنَّما يَنسبون ما أجمعوا عليه إلى قولِ الشَّارع؛ فكما أنَّ إجماعهم هذا أفاد القطعَ بصحَّةِ هذا الحكمِ الفقهيِّ في باطن الأمر، مع أنَّ حكمَ أفرادِهم ظنِّيٌ في ذاتِه؛ فكذلك أجماعُ المحدِّثين على صِحَّة الخبر يُفيد القطع في باطن الأمر، وإن كان حكمُ أفرادِهم على الخبرِ ظنيًّا في ذاته.

وفي تقرير هذا الاستدلال يقول ابن تيميَّة: «لو كان الحديث كذبًا في نفس الأمر، والأمَّة مصدِّقة له قابلةٌ له: لكانوا قد أجمعوا على تصديقِ ما هو في نفس الأمر كذب، وهذا إجماع على الخطإ، وذلك ممتنع، وإن كُنَّا نحن بدونِ الإجماعِ


(١) «العواصم والقواصم» (٤/ ١٧٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>