للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثمَّ الوجه الثَّاني من الجواب:

أنَّ استدلال الباقلَّاني ومَن تبعه بأنَّ الخبرَ الواحدَ إذا لم يُوجب العلمَ في نفسِه، فلا يُتصوَّر اتِّفاقُ الأمَّة على انقطاعِ الاحتمالِ فيه؛ غلطٌ مَنشأه نظرُته الانفراديَّة إلى آحادِ الأدلَّة مُجرَّدةً عمَّا يحتفُّ بها مِن دلائل وقرائن، تفيد بمجموعِها غيرَ ما تفيده آحادُها؛ وهذا غلطٌ حاصلٌ في كتابات كثيرٍ مِن أربابِ العلومِ الكلاميَّة في المسائل الأصليَّة والفرعيَّة.

وقد نبَّه الشَّاطبي إلى خلل النَّظر إلى النُّصوص بهذه النَّظرة القاصرة فقال: « .. قد أدَّى عدمُ الالتفاتِ إلى هذا الأصل وما قبله، إلى أنْ ذهبَ بعضُ الأصوليِّين إلى أنَّ كونَ الإجماع حُجَّةً ظنيٌّ لا قطعيُّ، إذْ لم يَجد في آحادِ الأدلَّة بانفرادِها ما يفيده القطعَ، فأدَّاه ذلك إلى مُخالفةِ مَن قبله مِن الأمَّة ومَن بعده!» (١)؛ هذا من جِهة.

ومن جِهةٍ ثانيةً: فإنَّ استبعادَ الباقلَّاني تصوُّرَ الاتِّفاقِ على انقطاعِ الاحتمالِ في خبرِ الواحدِ إذا لم يوجب العلمَ مُتجِّهٌ لو أنَّ كلَّ فردٍ مِن أفراد المُجمِعين قَصَدوا رفعَ هذا الاحتمالِ ابتداءً! في حين أنَّ الاحتمال انقطعَ عن تلقِّي الأمَّة للحديث بالقَبول باعتبارِ الهيئة الاجتماعيَّة لا الهيئة الانفراديَّة!

تمامًا كالعادة المُطَّردة الَّتي أحالت تواطؤَ رواةِ التَّواترِ على الكذبِ، حتَّى أفادَ خبرُهم العلمَ الضَّروريَّ، مع أنَّ خبرَ الواحدِ منهم لا يَنفكُّ عنه احتمالُ الخطأ أو الكذب (٢)؛ فكذا قول الأمَّة من حيث هو وحكمهم لا ينافي الخطأ، لكن لمَّا قام الدَّليل على عصمة هيئتهم الاجتماعيَّة وجب القول به من هذا الوجه.

ومن جِهةٍ ثالثة: أصلُ اعتراضِ الباقلَّاني مُتفرِّعٌ عن مسألةٍ أصوليَّةٍ مُتعلِّقة بمستندِ الإجماعِ الظنِّي، ذهبَت فيه طائفة من الأصوليِّين إلى أنَّ الدَّليلَ الظنِّي


(١) «الموافقات» (١/ ٣٥).
(٢) «الموافقات» (٢/ ٨٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>