للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لا يُوجب العلمَ القطعيَّ، فلا يجوز أن يَصدُر عنه الإجماع، لأنَّ الإجماعَ يُوجِب العلمَ القطعيَّ؛ إذ لو استنَدَ الإجماع لغيرِ القطعيِّ لكان الفرعُ أقوى مِن الأصل، وهذا عندهم غير مَعهود في الشَّرع.

والصَّواب في المسألةِ: ما ذهبَ إليه الجمهور مِن أنَّ الاتِّفاقَ إن وُجِد مِن علماء الفنِّ، فهو دليل وحُجَّةٌ يُفيد القطعَ، سواء أكان هذا الاتِّفاق عن دليلٍ قطعيٍّ أو ظنِّي، لأنَّ الحجَّة تنتقل مِن ذلك المستندِ إلى الإجماع ذاتِه (١).

هذا؛ ولسنا نُسلِّم بصحَّة سؤالِ الباقلَّاني هذا مِن أساسه، حيث أحالَ انقلابَ الظَّني المُحتَملِ إلى قطعيٍّ، فضلًا عن أن يُعترَض بمثلِه على ما قرَّرهِ ابن الصَّلاح ودَلَّل به؛ وذلك: لأنَّ الظَّن والقطعَ ليسا صِفةً مُطَّردة للدَّليل في نفسِه، بل هما مِن عوارضِ اعتقادِ النَّاظر المُستدِلِّ بحسبِ ما يظهر له مِن الأدلَّة، أمَّا الخبرُ في نفسِه فلم يكتسب صفةً في ذاتِه، حتَّى يُستنكَر تحوُّله إلى صفةٍ أخرى (٢)!

وعلى هذا: فإنَّ وصفَ الحديثِ بالقطعيَّة أو الظنيَّة وَصفٌ نِسبيٌّ ليس مُطَّردًا، يختلف باختلافِ مَداركِ المُستدلِّ في نظرِه إلى أحوالِ النَّاقلين، وأحوالِ طُرقِ المَنقولاتِ، وفي قوَّةِ الإدراكِ والاستقراءِ أو ضعفِه، وكثرةِ البحثِ وقِلَّتِه ونحو ذلك؛ فانصراف نظر الباقلَّاني عن هذا التَّقرير الدَّقيق هو ما أوجب له ذاك السُّؤال.


(١) انظر «التقرير والتحبير» (٣/ ١١٠) لابن الموقت الحنفي، و «الإجماع في الشريعة الإسلامية» لـ د. رشدي عليان (ص/٦٨).
(٢) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١٨/ ٤٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>