للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أمَّا في غير التَّبليغ الدِّينيِّ -كالأمورِ البشريَّة المَحضة، أو ما لا وحيَ فيه مِمَّا يَستوجبُ اجتهادًا مِن الأنبياءِ- فيجوز على الأنبياء في ذلك ما يجوزُ على غيرهِم مِن البَشر مِن الخطأِ والنِّسيان، وإن كانوا أكملَ النَّاس في الأمرين عقلًا وتدبيرًا، وهم لا يُقرُّون على خطأ في التَّشريع.

فكان منشأ الغلَط الَّذي وقع فيه ابن الوزير: أنَّه استشهد بأمثلة من تصرُّفات الأنبياء مُتعلِّقة بغير التَّبليغ والتَّشريع؛ كسهوِ النَّبي صلى الله عليه وسلم في الصَّلاة، إذ كان واقعًا منه مِن غير تقَصُّد، بل لمَّا استُفسِر عنه أزالَ احتمالَ التَّشريع مِن تصرُّفه، وبيَّن بقولِه أنَّ فِعلَه خطأٌ خارجٌ عن قصدِ التَّبليغ.

وكذا ما ذكره من مثال أقضيةِ النَّبي صلى الله عليه وسلم المَبنيَّةِ على شهادة الخصومِ، فإنَّ الأمور القضائيَّة على الأعيانِ ليست مِن ذاتِ التَّشريعِ، فإنَّ الله تعالى لم يتَكفَّل بحفظِ الدِّماء أن تُهرق، ولا بصيانةِ الأموالِ أن تُؤخَذ، ولا بالفروج أن تُستباح بغير حقٍّ، في الخصوماتِ والأقضيةِ، لا في عهد النُّبوة ولا بعدها، وهذا من بصائر قوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّما أنا بَشر، وإنَّه يأتيني الخصم، فلعلَّ بعضكم أنْ يكون أبلغ من بعضٍ، فأحسب أنَّه صَدَق، فأقضي له بذلك، فمَن قضيتُ له بحقِّ مسلم، فإنَّما هي قطعةٌ من النَّار، فليأخذها أو فليتركها» (١).

أمَّا اتِّفاق العلماء على صحَّة حكم شرعيٍّ، فهو مِن لبِّ التَّشريع! وما يَترتَّب على احتمالِ الكذبِ أو الوَهم في الرِّوايةِ مِن المَحظورات، لا يَترتَّب على احتمالِ كذبِ الشَّاهدِ في قضاءٍ مِن الأقضية، فلا يصحُّ قياسه على تلك الأمثلة.

يقول المُعلِّمي: «إنْ استمرَّ الحالُ على إثباتِ حديثٍ ولم يَتبيَّن فيه خطأٌ، فقد يُقال إنَّه صارَ مَقطوعًا بصحَّته؛ وهذا بخلافِ الشَّهادة، فإنَّها قد تكون باطلةً في نفسِ الأمرِ، ولا يفضحها الله عز وجل، لأنَّها في واقعةٌ واحدةٌ، لا تقتضي الحكمةُ أن لا يقع الحُكم بها» (٢).


(١) أخرجه البخاري (ك: المظالم والغصب، باب: إثم من خاصم في الباطل وهو يعلمه، رقم: ٢٤٥٨)، ومسلم (ك: الأقضية، باب: الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، رقم: ١٧١٣).
(٢) «رسالة في الكلام على أحكام خبر الواحد وشرائطه» (١٩/ ١٥٤ - آثار المعلمي).

<<  <  ج: ص:  >  >>