للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي تقريرِ هذه الفائدة في النَّظر إلى تراجم البخاريِّ، يقول السِّندي (ت ١١٣٨ هـ): «كثيرًا ما يذكُر بعد التَّرجمةِ آثارًا لأدْنَي خاصيَّةٍ بالباب، وكثيرٌ مِن الشُّراحِ يَرَوْنها دلائلَ للتَّرجمة، فيَأتون بتَكلُّفاتٍ باردةٍ لتصحيحِ الاستدلالِ بها على التَّرجمةِ، فإن عَجزوا عن وجهِ الاستدلال، عَدُّوه اعتراضًا على صاحبِ «الصَّحيح»، والاعتراضُ في الحقيقةِ مُتوجِّه عليهم، حيث لم يَفهموا المَقصود» (١).

ومن ذلك: أن يُضَمِّن التَّرجمةَ ما لم تَجرِ العادة بذكرِه في كُتبِ الفقه، وهذا ممَّا يَستغربه بعضُ أهلُ العلمِ مِن تَراجمه، وقد يَظنُّه بعضُ المُعاصرين مِمَّن لا يَعرف البخاريَّ: أنَّه مِن ضَعف إلمامِه بتقسيماتِ الأبوابِ! وأنَّه ذكرٌ لِما لا جَدْوى منه (٢)!

يُمثِّلونَ لذلك بترجمتِه لبابِ «أكل الجُمَّار»؛ فقد يَظنُّ الظَّانُ أنَّ هذا لا يُحتاج إلى إثباتِه بدليلٍ خاصٍّ، لأنَّه على أصلِ الإباحةِ كغيره، لكنَّ البخاريَّ لاحَظ أنَّه رُبَّما يُتَخيَّل أنَّ تجميرَ النَّخلِ إفسادٌ للمالِ وتَضييع له، فنَبَّه على بُطلانِ هذا التَّوهُّم إنْ سَبَق إلى ذهنِ أحَدٍ.

فلأجل نفاسة هذا المَلمح، عقَّب على البخاريِّ ابنُ المنيِّر (ت ٦٨٣ هـ) في هذا الموطن بأن قال: «رضيَ الله عنك! وقد سَبَق الوَهم إلى بعضِ المُعاصرين، فانتَقَد على مَن جمَّر نخلةً واحدةً بعد أخرى ليَقتات بالجُمَّار، تحرُّجًا وتَورُّعًا مِمَّا في أيدي النَّاس، لما عُدِم قُوتَه المعتاد في بعضِ الأحيان، وزَعَم هذا المُعترض أنَّ هذا إفسادٌ خاصٌّ للمال، وفساد عامٌّ في المال، وربَّما يُلحِقه بنهيِ مالك رحمه الله عن بيع التَّمرِ قبل زهوه على القطع إذا كثُر ذلك، لأنَّ فيه تسبُّبًا إلى تقليلِ الأقوات؛ فلمَّا وَقفتُ على ترجمة البخاريِّ، ظَهَرت لي كرامَتُه بعد ثلاثِ مائةِ سنةٍ ونيِّف! رحمه الله» (٣).


(١) «حاشية السندي على البخاري» (١/ ٥).
(٢) كما ادَّعاه عبد الصَّمد شاكر الإمامي في كتابه «نظرة عابرة إلى الصحاح الستة» (ص/٥٩).
(٣) «المتواري» (ص/٣٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>