فيهما على وجهِ التَّصحيحِ والاحتجاجِ به! والواقع أنَّهما يُخرِجان ما يَعْلَمان عِلَّتَه أحيانًا، لمقاصد لا تخفى على المُتَمَرِّسينِ بأساليبِ المُحَدِّثين في التَّأليف.
الوجه الرَّابع: تَحايُدهم -في الجملة- عمَّا تستوجبه المنهجيَّة العلميَّة الرَّصينة مِن الإنصاف والموضوعيَّة في نقدِ «الصَّحِيحين»؛ فإنَّ أئمَّة العِلل لا يُغمطون في غَرَضِهم مِن نَقدِ السُّنَنِ بسَببِ عَداوةٍ مَذهبيَّةٍ أو شَخصيَّة؛ بل تجد جبلًا مثل الدَّارقطنيَّ يخطِّئ البخاريَّ في حديث ما، لكن يُصوِّب حكمَ البخاريِّ في آخر مُختلَفٍ عليه بين النُّقاد.
فالإشكال أنَّ دَوافع المتأخِّرين مِمَّن ترامَوا على الصَّحيحين بالطَّعن، غالبًا ما يَكتنِفُها الانحيازُ إلى المَذهبِ العَقديِّ أو التَّيار الفِكريِّ؛ يكفي الحَصيف أن يفهم هذا مِن لَحْنِ تَصريحاتِهم في حَقِّ السُّنةِ؛ فلقد سَالَت البغضاءُ مِن أقلامِهم وما تُخفِي صدورُهم أكبر!
هذه البواعث الإيديلوجيَّة هي بحَقٍّ مِن أبرزِ إشكالاتِ الفِكر الحديثِ في نَقدِه للتُّراثِ الإسلاميِّ؛ تَرى الواحد من الإماميَّة يَردُّ كلَّ حديثٍ يُخالف اعتقادَه برِدَّةِ الصَّحابة رضي الله عنهم ولزوم الوَصيَّة لعليٍّ رضي الله عنه!
والإِباضيَّ يضَعِّف من السُّنةِ كلَّ أصلٍ لا يجده في حَفنةِ الكُتب الَّتي ورثها من أسلافه، وآخرَ جهميًّا غالٍ في تَكذيبِ كلِّ أثرٍ يَهدم مَذهبَه في تعطيل الصَّفات؛ وذاك حَداثيٌّ سَاخطٌ على التُّراثِ وكلِّ إسلاميٍّ قديم؛ .. وهَلُمَّ جَرًّا، فيحملهم تعصُّبهم هذا للطَّائفة على تنقص قدر الشَّيخين في نقد المتون لروايتهما ما يخالف قولَهم.
وأمَّا الوجه الأخير: فإنَّ الألفاظَ نفسَها المُستعمَلة في نَقدِ «الصَّحيحين» متنافرة فيما بين الفريقين!
فبينما نجِدُ تقديرًا مِن علماء الحديث والفقه للخِلافِ والمُخَالَف أثناءَ نقدهم لبعض مرويَّات الكتابين، وقَبولَهم الاحتمالَ فيها بلطيفِ العِبارات، وتخيُّرِ أنسبِ النَّقداتِ في أوجُهِ التَّعليلات، كقولِهم: هذا أشبه، وهذا أصَحُّ، وهذا خالَفه