للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الكرديُّ: «ورَدَّ أبو حنيفة الحديث المَرويَّ عن أبي هريرة وحدِه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال .. » وذكر الحديث (١)؛ وتَبِعه على هذه الدَّعوى (جمال البنَّا) (٢).

ولم يَرِدْ عن أبي حنيفةَ التَّنصيصُ على ردِّ الحديث، إنَّما الوارد عنه وأصحابِه تأويلُه، وذلك أنَّ الحديث عندهم يحتملُ مَعْنَيين:

المعنى الأوَّل: أن يكون استردادُ هذا المالِ بعد أن انتقلت مِلكيَّتُه إلى الَّذي أفلسَ بعدُ؛ فهذا المعنى مَردودٌ عندهم، لأنَّها لم تَعُد في مِلكيِّة البائعِ حتَّى يَحِقَّ له استرجاعُها بعَيْنِها.

والمعنى الثَّاني: أنَّ المُفلِسَ لم يَتَملَّك ذلك المالَ أصلًا، فقد جاء فيه قوله: « .. فأصابَ رجلٌ مالَه بعينِه»، وإنَّما مالُه بعينِه يَقعُ على المَغصوبِ والعَواري والوَدائع وما أشبه ذلك، فذلك مالُه بعينِه، فهو أحقُّ به مِن سائرِ الغُرمَاء؛ أمَّا المَبيع: فلم يَبقَ بالبيعِ مِن أموالِه حقيقةً! وكان حملُ الكلامِ على الحقيقةِ أولى (٣).

وهذا المعنى هو المُراد عند الحَنفيَّةِ مِن حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه، توفيقًا منهم بينه وقواعدِ الباب وباقي الآثارِ فيه (٤)؛ فبانَ بذا بأنَّهم يُصحِّحون الحديثَ بدليلِ تأويلِه.


(١) «نحو تفعيل نقد متن الحديث» (ص/٥٤).
(٢) «تجريد البخاري وسلم» (ص/١٦).
(٣) وهو ما ذهب إليه محمَّد بن الحسن -أحدُ صاحِبَي أبي حنيفة- في كتابه «الحجَّة على أهل المدينة» (٢/ ٧١٦)، وانظر «شرح معاني الآثار» للطحاوي (٤/ ١٦٥)، و «الغرَّة المنيفة» لأبي حفص الغزنوي (ص/٩٩).
(٤) مِن الأحاديث التي يحتجون بها في هذا الباب مما يعضد المعنى الثاني للحديث دون الأول: ما ذكره البدر العيني في «البناية شرح الهداية» (١١/ ١٢٨) قال:
«أبو هريرة رضي الله عنه رَوى أيضًا عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيُّما رجل باع سلعةً فأدركها عند رجل قد أفلس فهو ماله بين غرمائه»، أخرجه الدارقطني، فاختلفت الرِّواية، وذلك يوجب وهنًا في الحديث على ما عُرف.
فإن قلتَ: في إسناده ابن عيَّاش، وهو ضعيف! قلتُ: قد وثَّقه أحمد، وقد احتج بالحديث الخصَّاف والرَّازي.
فإن قلتَ: قال الدَّارقطني: لا يثبت هذا الحديث عن الزُّهري مسندا، وإنما هو مرسل! قلتُ: المرسل عندنا حجَّة».

<<  <  ج: ص:  >  >>