للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بيدَ أنَّ المعنى الأوَّل الَّذي استبعدوه، قد جاء التَّأكيد عليه في ألفاظٍ أخرى صحيحةٍ للحديث ورَدَ فيها لفظ (البيعِ) صراحةً، بمعنى أنَّ المَتاعَ خَرَج مِن البائع إلى مُلكِ المُشتري الغارِم حَقيقةً، فأذِنَ النَّبي صلى الله عليه وسلم للبائِع أن يُعيدَ تملُّكَه بعينِه إذا أفلَس المُشتَرِي، كما في قوله صلى الله عليه وسلم مثلًا: «أيمُّا رجلٍ باعَ مَتاعًا، فأفلسَ الَّذي ابتاعَه منه، ولم يَقبِض الَّذي باعَه مِن ثمنِه شيئًا، فوَجَده بعينِه، فهو أحقُّ به» (١).

وظنِّي بأبي حنيفةَ أن لو وقفَ على مثلِ هذه الرِّواياتِ الصَّحيحِة سندًا، والصَّريحة دلالةً على هذا المعنى، لتَركَ قولَه الآخر، ولأذعَنَ لسنَّةِ نَّبيِّه صلى الله عليه وسلم دونما تَردُّدٍ؛ وهذا عينُ ما ظنَّه الطَّحاويُّ بإمامِه؛ فبعد أن رَجعَ الطَّحاويُّ عن القولِ بمَذهبِ إمامِه أبي حنيفةَ في هذه المسألة، قال في تقريرٍ له يَصلُح مثالًا لحُسنِ التَّجرُّدِ للحقِّ وتركِ التَّعصُّب للأشياخِ:

« .. وقد كُنَّا نقول في هذا الحديث: إنَّ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: « .. فوَجَد رجلٌ مالَه بعينِه»: أنَّ ذلك قد يحتملُ أن يكون أُريدَ به الودائعُ والعَواري، وأشباههما الَّتي مَلَك واجِدِها قائمٌ فيها، ليست الأشياء المَبيعات الَّتي ليست لواجدِها حينئذٍ، وإنَّما هي أشياء قد كانت له، فزالَ مُلكه عنها، كما يقول أبو حنيفة وأصحابه في ذلك.

وقد كان بعض النَّاس مِمَّن يذهب في ذلك مَذهب مالك ومَن تابعه، على قولِه في ذلك، يحتجُّ علينا في ذلك (٢)، وكُنَّا لا نرى ذلك حُجَّةً له علينا في خلافِنا إيَّاه الَّذي ذَكرنا، لانقطاعِ هذا الحديث .. ».


(١) أخرجه أبو داود في «سننه» (ك: البيوع، باب: في الرجل يفلس فيجد الرجل متاعه بعينه عنده، برقم: ٣٥٢٢)، والدارقطني في «سننه» (برقم: ٢٩٠٢)، والبيهقي في «سنن الكبرى» (٦/ ٧٨ - ٧٩)، وصحَّحه ابن التُّركماني في «الجوهر النقي» (٦/ ٤٧)، والألباني في «إرواء الغليل» (٥/ ٢٧٢).
(٢) وذكَرَ الحديثَ بلفظه الآخر: «أيُّما رجلٍ باعَ متاعًا .. ».

<<  <  ج: ص:  >  >>