للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومثلُ هذا قد وقَع لمالكٍ في مَسائلٍ أخرى، حَكَم فيها بمُقتضى عدمِ بلوغِه مَن عَمِل بخبرِ ما؛ ويتَّضِح بعدُ بأنَّه قد قال بمُوجبه عَددٌ مِن الصَّحابةِ ومَن بعدهم، فيُتعَقَّب مالكٌ في ذلك (١).

الشَّاهد عندي مِن هذا: أنَّ هذا التَّصرُّف الأصوليَّ مِن مالكٍ لا يَقتضي بلوغَ حَدِيثَا عائشة وابن عبَّاس إليه مِن وجهٍ تقوم به الحُجَّة (٢)؛ وهو ما مَال إليه الدَّاودي (ت ٣٠٧ هـ) في قوله: «لعلَّ مالكًا لم يبلُغه هذا الحديث، أو ضَعَّفه لما في سَنَدِه مِن الخلاف» (٣).

هذا الاحتمال إذن وارِدٌ عليه، لا يوجد ما يَقطع بخلافِه، وماَلكٌ على إمامتِه في السُّنَن لم يُحِط بكلِّ السُّنة، فكم مِن مَسألةٍ أفتى فيها بخلافِ حديثٍ لم يبلُغه، قد عُلِمت صِحَّتُه عند غيره (٤).

ثمَّ على فَرضِ عِلمِ مالكٍ بهذين الحَديثين: فليس يَعني تكذيبَه لهما بحالٍ! فهؤلاء مِن بعده أصحابُه وأتباعُ مَذهبِه لم يَذهَب أحَدٌ منهم إلى مخالفةِ أهلِ


(١) من أمثلة ذلك -ممَّا هو قريبٌ جدًّا من مسألتِنا- ما تراه من تعقُّبِ بعضِ العلماء مالكًا في قوله: «لا يحجُّ أحدٌ عن أحدٍ»، قال ابن حجر في «فتح الباري» (١١/ ٥٨٥): « .. وفيها تُعقِّب على ما نُقل عن مالكٍ .. واحتجَّ بأنَّه لم يبلغه عن أحدٍ من أهلِ دارِ الهجرة منذ زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه حجَّ عن أحدٍ، ولا أَمر به، ولا أذِن فيه، فيُقال لِمن قلَّد: قد بلَغ ذلك غيره، وهذا الزُّهري معدودٌ في فقهاءِ أهلِ المدينة .. ».
وكذا مثال رجوعه عن فتواه بعدم المسح على الخفين للمُقيم بدعوى عدم علمه بمن فعل ذلك من أهل العلم بالمدينة، ثم رجوعه عن تلك الفتوى بعد ثبوت من فعل ذلك منهم، انظر «البيان والتحصيل» (١/ ٨٤)، و «أصول فقه الإمام مالك - أدلته النقلية» (٢/ ٨٧٧ - ٨٧٩).
(٢) ويغلب على الظَّن أن لو بلغه ذلك من وجهٍ صحيح لكان ذكره ولم يقتصر في هذا الباب على بلاغ ابن عمر من قوله، كما ذكر حديث الخثعميَّة في جواز الحجِّ عن الوالدِ العاجز، ثم تركِه العملَ بظاهرِه، مع إخراجه له في «الموطأ» (١/ ٣٥٩)، وكذا حديث «البيِّعان بالخيار»، ليُنبِّه على أنَّ تركَه له كان عن علمٍ به، وأنَّه ترك العمل بظاهره لِما هو أرجح دلالةً منه.
(٣) «التوضيح» لابن الملقن (١٣/ ٣٨٨).
(٤) انظر بعض أمثلة ذلك في «المسالك» لابن العربي (٣/ ٥٣٧)، و «شرح صحيح البخاري» لابن بطال (٤/ ٣٩٨)، وشرح الزرقاني على «مختصر خليل» (٢/ ٥٠٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>